الصفحة الاخيرةحديث الصباحصحيفة البعث

حنا مينة..!

حسن حميد

أجل..

في مثل هذه الآونة، وقبل سنوات، رحل الأديب السوري حنا مينة الذي ظنّ أنه سيعيش حياته كلّها، مثل أجداده، إلى جوار البحر، يفرح بما سيعطيه البحر له، ويحزن إن ابتعد عنه، فالبحر هو الفرح إن جاء، والبحر هو الحزن إن غضب  أو جافى.

روى حنا مينة سيرة حياته التي تقاسمتها الأفراح والأحزان، منذ الربع الأول من القرن العشرين، وحتى السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين، من دون أن يكون البحر هو السبب أو المسبب لهذه الأفراح والأحزان، لأنه غادر البحر السوري منذ يفاعته، وجاء إلى مدينة دمشق التي يحبّ أن يسميها (الشام) مع أسرته التي آخت شظف العيش والحرمان حتى صار كلّ بارق ووامض لها نهاراً، تعلّق حنا مينة بوالدته التي كان دعاؤها مفتاحاً ذهبياً لكلّ باب أغلق بوجهه، وتعلّق بها أكثر حين وعى كم تعبت وشقيت حتى جعلت للفرح مطرحاً في البيت، لهذا كان يشرب من فرحها وهو يسقط في كفّها بعض النقود التي حصل عليها  من عمله هنا وهناك، في المرفأ، وفي السوق، وفي المقهى، وكان يشعر بأنّ حياته غدت صندوق الدنيا المحتشد بالصور الجميلة، والأضواء الوامضة، ودنيا الخيال حين يرى أمّه تصلي كي يصبح من أهل الحظوظ الطويلة في تلبثها وبهجتها.

حنا مينة اكتسب قليلاً من المعارف والعلوم من المدرسة الابتدائية التي غادرها حين حاز شهادتها، وكانت آنذاك شهادة مهمة، لكنه حاز على معارف كثيرة بجهد شخصي، واستلّها من الكتب التي وصلت إلى يده بطرق مختلفة وإغراءات مختلفة، واستلّها أيضاً من الكتب التي جالسها قراءةً في المكتبات العامة.

عمل حنا مينة في مرفأ اللاذقية أعمالاً عدة، منه الأعمال الكتابية التي لها علاقة بالمراسلات والمحاسبة وتسجيل الديون وطلبات التجار، كما عمل كاتباً عاماً أمام دور القضاء، يكتب شكاوى الناس بأسلوب لا يخلو من الإبانة والصراحة والحيادية، ثم عمل في الصحافة إلى حدّ عشقها لأنها جمعت أخبار الدنيا بين يديه من جهة، ولأنها عرّفته الى شريحة اجتماعية أخرى، ما كان يعرف عنها شيئاً من جهة أخرى، حرر الأخبار الاجتماعية والفنية، وإن لم يجدها ألّفها، وحرر القصص التي كانت تصل إلى الصحيفة، وإن غابت كتبها، وقد راح يختلي بنفسه ليساررها بأنه يعرف قصصاً أجمل، وأكثر جاذبية من القصص الاجتماعية التي كانت تصل إلى الصحيفة،  فتحال إليه لينظر فيها، ولأنّ الصحافة سلطة، كما وعى، حسب أنّ كلّ ما ينشر في الصحيفة من القصص هي أيضاً تتمتع بسلطة تحول دون انتقادها أو الحطّ من قيمتها، لذلك أراد أن يكتب بعض أحداث عائلته لتصير قصة من القصص التي تنشرها الصحيفة، وقد فعل ذلك ونجح  حين كتب بعض الأحداث التي وقعت أمام عينيه في المرفأ والمقهى، ونشرها، فلاقى من الناس الثناء والترحيب، ومن مسؤولي الصحيفة الترقية، حتى بات يحرر أكثر من صفحة  في الصحيفة، ثم بات اسماً وشخصاً مهمّاً في الصحيفة، عندما أصبح صاحب رتبة ومكانة، لكن كلّ شيء طار حين أغلقت الصحيفة، ذلك الحدث الفجائي لم يكن صادماً له لأنّه غدا مثقفاً، وأديباً، يتطلع إلى المجد بعد أن تصلّب عوده، وزاد شغفه بالأدب والإبداع، ولاسيما بعد أن حدّد رسالته في الحياة، في أن يكون نصيراً لاولئك الذين يشبهونه في المعاناة والعمل والحلم، فجالس نفسه في عزلات مديدة كي يكتب أحداث الماضي، وأحوال الواقع، ويواقف الأحلام المشدودة إلى الفرح، بعد رحلة عيش مرّة وقاسية لم تخل من الأحزان التي فرضتها فترات زمنية حرون استولت على كلّ شيء سوى أحلام الناس التي بها جازوا الصعاب والظلمات وثقافة الإخافة والترهيب والتهويل إلى عالم المدارس والكتب والقراءات والوعي والانتماء!

ما كتبه حنا مينة من أدب نايف شكل سيرة لمسيرة الرواية العربية التي حددت مهمتها بأن تكون مدونة لتاريخ الحياة العربية في بقعه الأرجوانية التي احتشدت بالآهات والالام من جهة، وبالظفر من جهة أخرى، فكانت تجربة حنا مينة إحدى أهم التجارب الروائية العربية التي فهمت معنى الرسولية في الأدب من أجل تأبيد المعنى والجمال في آن.

هنا، في بلادنا السورية العزيزة، ظننا وهماً أن تأثير حنا مينة محصور وجارف لكل الأجيال الأدبية السورية عبر ستة عقود من الزمن، لكن الحقيقة الرابخة عيانياً هي أنّ تأثير جماليات سرد حنا مينة كان عامّاً لكلّ الناطقين باللغة العربية، وأن حضوره كان عامّاً لأهل الكتابة السردية، وهذا ما بيّنته الدراسات الأدبية المهمومة بالنقد  داخل الجامعات العربية.

حنا مينة، وفي استذكاره، أديب نادر في إخلاصه للأدب والابداع، ونادر في عشقه للرواية ومتطلباتها، ونادر في ثقافته، ونادر في بساطته وتواضعه، ونادر في حضوره ومصداقيته.

Hasanhamid55@yahoo.com