التعليم المجاني.. خدمة أم استثمار؟
علي عبود
تختلف نظرة خبراء التنمية عن منظّري اقتصاد السوق إلى موضوع التعليم المجاني، وهو اختلاف جذريّ بين من يرى في مجانية التعليم خدمة تستنزف المليارات من خزينة الدولة، وبين من يراها استثماراً تنموياً ضرورياً لرفع نسب النمو الاقتصادي.
وبعد أن كانت مجانية التعليم وتعميمه، وخاصة في الريف السوري، من المسلمات البديهية والضرورية، بل والملزمة لكل الحكومات بنصّ دستوري منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي، بدأنا نسمع أصواتاً شاذة تطالب بإلغاء مجانية التعليم تحت ذرائع متعددة!
وكان أغرب ما سمعناه، مؤخراً، مطالبة بإنهاء الدور الأبوي للدولة “لأنه لا توجد دولة في العالم تعلم أبناءها 20 سنة مجاناً”، وهذا الكلام غير صحيح أبداً، فالتعليم المجاني ليس حكراً على سورية، بل هو موجود في كل الدول، سواء الرأسمالية أم الاشتراكية، وهو موجود مثلاً في لبنان منذ خمسينيات القرن الماضي.
وكما قلنا مراراً، فالتعليم المجاني للسوريين، وإلزاميته في المرحلة الأساسية، ليس دعماً ولا منّة، بل هو استثمار في التنمية الاقتصادية، وكان أحد الإنجازات الكبرى لحزب البعث، فقد كان التعليم في سورية للنخبة فقط، وليس لعموم السوريين، ولولا مجانية التعليم لما تمكّنت سورية من رفد الدولة بعشرات الآلاف من الأطباء والمهندسين والمحامين والاقتصاديين والصيادلة والكيميائيين.. الخ.
تصوّروا لو أن التعليم في المرحلة الجامعية مأجور، فكم عدد الطلاب القادرين على متابعة دراستهم العليا؟ ومن الخاسر في هذه الحالة سوى الدولة والمجتمع والاقتصاد الوطني؟
إنه فعلاً طرح غريب ومريب!!
ويُجمع خبراء التنمية بأن الموارد البشرية هي المعيار النهائي للثروة، وبالتالي فإن مجانية التعليم، سواء على نطاق محدود أو على نطاق واسع جداً، وبنص دستوري كما الحال في سورية، هي التي تؤمّن الأدمغة والخبرات اللازمة لصنع الثروات أو التنمية بمجالاتها ومتدرجاتها المختلفة.
والدولة التي تنفق المليارات على التعليم المجاني هي أكثر المستفيدين من ثماره، ولولاه لما تمكّنت سورية من تأمين الكوادر اللازمة لقطاعها الإنشائي الذي تولّى إنجاز السدود وشبكات الري واستصلاح الأراضي وبناء الضواحي السكنية والمرافئ والمطاحن والمصانع والسكك الحديدية والطرقات والجسور والمدارس والمشافي والجامعات.. إلخ.
وقد يكون الاستثمار في التعليم عملية طويلة الأمد تستغرق أكثر من 20 عاماً للبدء بحصد ثمارها تدريجياً، لكن نتائجها مضمونة وتأثيراتها شاملة وعميقة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.. إلخ.
نعم، يُخطئ من يدعو إلى إلغاء مجانية التعليم لأن نظرته إليها قاصرة، فهي ليست – كما يزعم – خدمة للفرد، أو نوعا من الرعاية الأبوية للدولة، بل هي – أولاً وأخيراً – استثمار في التنمية. ولا نبالغ بالقول إن الحكومات المتعاقبة كانت مقصّرة في العقدين الأخيرين بالاستفادة من خريجي التعليم المجاني، فبدلاً من استثمار خبراتهم وإمكاناتهم في تنمية الاقتصاد دفعت بأكثريتهم إلى الهجرة إلى حدّ بدأت فيه قطاعات أساسية، كالصحة، تشكو من نقص خطير في بعض الاختصاصات!
أكثر من ذلك، إن لم تستمر الدولة بالاستثمار في تنمية الموارد البشرية عبر مجانية التعليم، فكأنّها توجّه ضربة قاضية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، لأن العنصر البشري المتعلم والخبير في مختلف المجالات والاختصاصات هو الركيزة الأساسية لأي تنمية اقتصادية واجتماعية وثقافية.
الخلاصة.. اللجنة التي أنجزت مشروع الدستور، سواء القديم (1972)، أم الجديد (2012)، أدركت أهمية الاستثمار في التعليم، وبأنه ليس خدمة للفرد فقط، بل هو استثمار في التنمية، لذا نصّت المادة 29 من الدستور النافذ بأنه مجانيّ في جميع مراحله، وإلزامي حتى نهاية مرحلة التعليم الأساسي، وبأن الدولة تعمل على مدّ الإلزام إلى مراحل أخرى.