تراجع الشباب عن المشهد الثقافي… مؤشرات وأسباب
حمص – سمر محفوض
تشير غالبية الآراء المحلية إلى أن الشباب مقصر بالمشهد الثقافي في حمص، ويعود ذلك إلى أسباب عديدة ومتنوعة، ويمكن لأي متابع للمشهد أن يلاحظ أيضاً غياباً واضحاً وصل حدّ “شبه القطيعة” بين جيل المبدعين الشباب وجيل المبدعين الأكبر سناً “المخضرمين”، فمن يحضر نشاطات المخضرمين هو ذاته، لا فرق بذلك بين فعالية في المركز الثقافي في المدينة، وفي رابطة الخرجين الجامعين، أو في أماكن أخرى، ولا شك في أن صراع الأجيال دائم ومتكرر، لكن هل يبرر تلك القطيعة، وهل رسخته عوامل مختلفة مثل “ثورة الاتصالات” التي استتبعها بالضرورة تطور وسائط التلقي، أم أن هذه القطيعة تؤشر إلى إنقسامات ثقافية تعيشها المجتمعات العربية برمتها، بما فيها الكتاب؟.
وفي السياق، قالت رئيسة فرع حمص لاتحاد الكتاب العرب، الكاتبة والشاعرة أميمة إبراهيم لـ”البعث”: “حاولت منذ استلام مهامي كرئيسة لفرع الاتحاد بذل جهودي لكي يكون الاتحاد في قلب الحالة الثقافية، ولا سيما جيل الشباب وغيرهم من الأدباء، وإتاحة المنبر لأسماء مبدعة لم تمتلك فرصة الإضاءة على منجزها، فكان لدينا بالإضافة للنشاط الاسبوعي الخاص بأعضاء الاتحاد، نشاط آخر هو (ملتقى أصدقاء العاصي) والفريق الثقافي الشبابي، وفعلاً كانت هناك مشاركات لافتة لمبدعين مميزين.
وتابعت: “لكن المشكلة التي تبدّت لاحقاً هي بـ”الأنا الكبيرة” عند جيل الشباب، أو بمعنى أكثر دقة هذا الجيل استسهل الكتابة عبر الفيس، بل ومعهم قسم كبير من الأجيال الأكبر سناً بالطبع، وما إن يكتبوا شيئاً حتى تنهال “اللايكات” والتعليقات المادحة، وتالياً تتورم “الأنا” لديهم ولا يعبأون بأي ملاحظة أو توجيه مهما كان محقاً”.
ولفتت إلى أنه في الجانب الآخر من المشكلة، الشباب محكوم بـ”الشللية”.. مردفةً: “أتكلم تحديداً عن جيل المبدعين الشباب، وقد فؤجئت بحجمها، فلكل مجموعة قائد\ة، أو موجه\ة يديرها، ويقدمون من خلاله منجزهم الأدبي، كذلك الحوار عليه أن يمرّ عبره، ونحن في الحقيقة لم نكن نهدف إلى هذا الشكل من التواصل الثقافي، بل كان التوجه لجيل الشباب لدعم مواهبهم ورعايتها، وقد وجه رئيس اتحاد الكتاب العرب في سورية الدكتور محمد الحوراني لطبع أي منجز شبابي يحمل قيمة إبداعية حقيقية، لكن “الأنا” كما أسلفنا أصبحت مرضية”.
من جهةٍ أخرى، يرى الصحفي والقاص عبد الحكيم مرزوق، أن هذا الافتراض ليس دقيقاً، يقول: “إننا نرى الشباب في بعض الأنشطة الثقافية، والتي تكون مخصصة للشباب وبمشاركة الشباب، وأعتقد أن هذه الأنشطة ربما تكون قليلة، لكنها ليست معدومة”، مؤكداً: “أن المنابر الثقافية في حمص يمكن أن تستقطب مزيداً من الشباب”.
وأشار مرزوق إلى أن قول إن معظم الحضور من المخضرمين والمتابعين القدامى قول صحيح، وذلك لأن جيل الشباب له انشغالاته بالدراسة أو بموضوعات خاصة، فأي موضوع يطرح يمكن أن يجده على الشابكة بكبسة زر من حاسوبه المحمول، ولذلك فهو يرى حضور محاضرة بموضوع ما هو إضاعة للوقت في هذا العصر الذي احتل النت فيه كل تفاصيل حياتنا”.
وعلى المقلب الآخر كان للشباب موقف واضح، فقد أشارت القاصة والكاتبة آلاء الدياب، دكتورة في كلية الآداب بجامعة البعث، إلى أن ظاهرة غياب الشباب هي بعد من أبعاد عدم فعالية الحركة الثقافة في حمص ويعود ذلك في بعض جوانبه إلى مأسسة الثقافة، موضحةً أن العمل الثقافي عمل إبداعي ومتجدّد ومتغير، في حين أن العمل المؤسساتي نمطي قائم على المحاضرات الرتيبة والخطط التقليدية؛ لذلك نجد عناوين المحاضرات من جهة، وأسماء المحاضرين من جهة أخرى، وطرق العرض والتقديم.. كلها تؤدي إلى فقدان الشغف.
وأضافت الدياب: “إن مأسسة الثقافة لها بعد آخر أكثر سلبية مثل احتلال المنابر من قبل شخصيات غير مؤثرة ولا تقدم إضافة للشباب، وهذا يتمثل في العطالة الثقافية للمثقفين؛ فالمثقف في ظل وجود مؤسسات تؤمن له المنصات والمنابر وتؤمن له المجلات والنشر ليس بحاجة للمجتمع، لذا نجد أن طروح المثقفين بعيدة عن الشباب والثقافة، بهذا المعنى تحولت إلى صورة أو شكل أيقوني وفقدت الأثر المجتمعي”.
وتابعت: “لذلك فإن التخطيط الثقافي أهم من العمل ذاته، وهناك الكثير من الأسئلة التي ينبغي طرحها على المنظمين مثل “ما الجدوى.. ما الجديد.. ” فما يقدم اليوم من عروض ثقافية هو محاولة لتلميع صورة البعض وتصنيع للبعض الآخر، وهذا التهجين الثقافي غير قادر على إحداث تغيير أو حتى تنوير، كما أن المحاضرات والندوات كممارسة ثقافية فقدت صلاحيتها المعرفية وينبغي العمل على تقديمها بقوالب أكثر قدرة على المزامنة”.
وأشارت إلى أن زمن النشاطات الثقافية غير مدروس، لتختتم بالقول: “إن المشكلة ليست في الشباب ولا في ضيق الوقت ولا في المنصات الإلكترونية، بل في المحتوى التقليدي غير المدروس والسطحي، وإذا كان العمل الثقافي غير قادر على كسر أُفق التوقع عن المتلقي فهو عمل قاصر”.
من جانبه، أكد راتب إدريس، شاعر وروائي وناقد، أننا حين نبحث في سوية اهتمام الشباب بالثقافة أو عزوفهم عنها، فإننا أمام ملامح مستقبلها المنتَظر، مضيفاً: “إن لم يكن من هذه الفعاليات فائدة مباشرة لن تكون هدفاً لأبناء جيلٍ يعانون زخم حضور الحضارة الاستهلاكية وإشكاليّاتها، وتالياً مزاحمتها لما يغذّي العقل والروح.. ناهيك عن الضغوط الحياتية واندفاع الشباب الذي لم يكن ليستوعب بأريحيّةٍ هذه الضغوط.. ربما هذا من جانبهم كمتلقّين شباب، ويضاف غياب الشغف بالثقافة والمكتوب كبديلٍ عن المشاهَد المحسوس سهل المتناوَل، وأيضاً غياب الثقافة المسبَقة والمختزَنة للشابّ لتكون الدافع الحقيقي للرغبة في المتابعة والحضور، وهو ما لم يتوافر إلّا لدى القلائل الذين يمكن أن يُحتسبوا رافداً لأبناء الكار أنفسهم”.
وتابع إدريس: “نعم قلّما نرى الشباب في تلك الفعاليات لأن مضمون النشاطات يكون أكاديمياً في الغالب، والعكس بالعكس فعندما يكون النشاط موسيقياً، أو مسرحياً، أوترفيهيّاً – ومع أنّه لاشكّ محمّل برسائله الجادّة- لكن سهولة التواصل معه وتوفير عناء التفكير يقود الشباب بنسبة أكبر إلى هنا، مضيفاً: “وممّا يجب ذكره أيضاً الظروف العامة الاقتصادية وما مرّرنا به ساهم بذلك”.
وأكد الشاعر عبد السلام صبرا، أن توقيت إقامة أغلب الفعاليات غير مناسب لكثير من الشباب، فهو وقت عمل أو دراسة، بالإضافة إلى نوعية المادة المطروحة، فهي في الغالب مكرّرة وصدئة وذات لغة معقدة لا يمكن استعمالها لمخاطبة الشباب، مضيفاً: “الشباب “نزق” جداً هذه الأيام.. وهناك أساتذة كبار في الأدب والنقد موجدون ونحترمهم، لكن هناك أيضاً من يظن أن العمر وحده يكفي لكي يكون وصياً على الشباب حديث العهد في الشعر أو القصة”.
وذكر صبرا التطور واختلاف العصر؛ فبالأمس كان لا بد أن تتحمل الرديء لتكسب الثمين، أما اليوم فهناك مستطيل في جوال كل منا ينخب له ما يشاء ومتى شاء، مبيناً: “هناك ما يحتسب على الشباب؛ فهو ينحاز لمن يهتم، وهناك من يستغل هذا ويكسب الشباب في بداية طريقهم الأدبي بإيهامهم بتميز أعمالهم والتصفيق لهم فقط من دون أن يقدم لهم نصيحة تنفعهم..الشباب مقصّر، لكنه ليس المقصر الوحيد”.
وأشارت ريناز جحواني، شاعرة شابة، إلى أن عزوف الشباب عن حضور الفعاليات والأصبوحات للأدباء والشعراء الأكبر عمراً وخبرة وتجربة ليس بمحض إرادته، مبينةً: “أنا كفرد أهرع إلى حضور هكذا أصبوحات، إذ أنها تسهم في نضوج اللغة الشعرية لديّ، وأجزم بأن جميع زملائي الشباب يملؤهم الشغف للحضور، لكن على أرض الواقع لا نجد ما يعكس هذا الشغف، والمشكلة تكمن في “النوع والوقت والتفرغ للأدب”، أما عن نوع هذه الندوات تسهم في إثراء وإغناء الألفاظ المعجمية لنا كشباب خاصة حين نستمع لتجربة شعرية لربما تبلغ من العمر خمسين سنة مثلاً، في حين أن تجربتنا لا تزال تحبو في الأدب”.
وتابعت جحواني: “أرى أن أهم سبب في عدم الحضور يتفرع عن هذين البندين إذ أننا -أقصد الشباب- في عمر الإنتاج أو على الأقل في عمر يتطلب أن نكون منتجين فيه، في وقت تكون أغلب النشاطات تكون صباحية، وبحكم الدوام الرسمي للدوائر الحكومية فنحن مشغولون بعمل ما أو دراسة، ما يمنع حضور أحدنا الندوات الأدبية رغم عطشه لإرواء شغفه الأدبي”.
إلى ذلك أجمعت طروح الشباب على هذه الفجوة بين المنبر والشباب والتي يجب أن تُرصَد وتعالَج، لما للثقافة من قدرة على بناء الحاضر وتأسيساً للمستقبل وليبقى التنوّع بما يُقدَّم والتماهي بين مايُرَغّب ومايرفع السويّة، وهذا دور المؤسسات الثقافية في قراءاتها للواقع والبحث في البدائل الأفضل المدروسة، إذ تقيم المؤسسات الثقافية فعاليات مشتركة في الجامعة مع القليل من الإعلانات مسبقاً، بالإضافة إلى العمل على تناغم تجارب الشباب مع من هم أكثر خبرة وتجربة لنصل إلى تجربة انفجارية يافعة عند الشباب وتجربة ناضجة مكتملة أو شبه مكتلمة عند أهل الأدب.