الصفحة الاخيرةحديث الصباحصحيفة البعث

تَتْويه

عبد الكريم النّاعم

بعد غياب طال، قصدنا أنا وصديقي شيخنا الجليل الذي نزوره في فترات متباعدة، فوجدناه يتأمّل تفتّح الأزاهير في الشجيرات التي زرعها ورعاها، وكان يرتدي ثياباً خفيفة، بخلاف ثيابنا السميكة؛ وبعد السلام، قال له صديقي: “شيخنا المحترم لباسك يُشبه لباس الشباب، على ما أنت عليه من سنوات، مدّ الله في عُمُرك؟”.
ابتسم ابتسامة هادئة مُشرقة، وقال: “أنا ألتزم بكلمة الإمام عليّ كرّم الله وجهه، فقد قال في جملة نصائحه وتوجيهاته الكثيرة: “تَوَقّوا البرْد في أوّله، وتلقوه في آخره، فهو يفعلُ في الأبدان مثل فعله في الأشجار، أوّلُه يُحرِق، وآخرُه يُورق”، فانظرْ إلى هذا الرّبط المتماثل بين الإنسان والطبيعة.
قلت: “حيّاك الله، في كلّ ما تقول ثمّة دلالة عميقة، وحتى لا يستغرقنا الوقت، أريد أن أعرف رأيك فيما يتتالى من أحداث فوق أرضنا المحتلّة في فلسطين، فأنا ما أكاد أفهم ماذا تريد أمريكا، بمَن معها، ومنها ذلك الجسر العائم الذي تدّعي واشنطن أنّه لمدّ شعب غزّة بما يحتاج إليه من دعم، ولقد استمعتُ إلى عدد من التحليلات، بقدر ما يسمح وقت الكهرباء”.
أجاب بإشراقة وجهه التي لا تُفارقه، والدّالة على هدوء داخليّ عميق: “هي، كما أراها عمليّة تَتويه مقصودة، فلو أرادتْ واشنطن إيقاف الحرب لأوْقفتْها خلال ساعات، وكيف توقفها وهي تقدّم جسراً من المساعدات الحربيّة للجيش الصهيوني؟ ولا تنس أنّ في البنتاغون أناساً علماء في جميع الاختصاصات النفسيّة، والحربيّة، والاقتصاديّة والاجتماعيّة، وإذا كان بايدن مشغولاً بالحملة الانتخابيّة، فإنّ أولئك المتخصصين لا يعنيهم شيء منها، ودورهم هو تقديم الاستشارات، وقد يضيع في متاهات ذلك بعض المحلّلين، أمّا الجهات الأمريكية المعنيّة فإنّها تعرف ماذا تريد، فهم يريدون أن يُلجموا مشاعر الناس في منطقتنا، لكيلا تُحرَج الجهات المنصاعة للإدارة الأمريكيّة، فهي تريد تنفيس هذا الاحتقان، وكلّ إطالة لأمد الحرب، بعد سياسة الأرض المحروقة في غزّة، يُراهَن عليه كوسيلة لتحقيق الأهداف الصهيونيّة، وإذا كانت المظاهرات التي ملأتْ شوارع العالم قد حقّقت تحوّلاً في الرأي العالمي، وهذا له ما بعده، فإنّ الخشية أن ينتقل شيء من هذا لشوارع الإقليم، ولاسيّما الشوارع الممسوكة بحزم من حكام في المنطقة، معروفين بأنّهم لا يأتون بحركة سياسية إلاّ إذا كانت موافقة لأهواء واشنطن وتل أبيب.. ألم تسمع بذلك التصريح الذي أعلنه مسؤول أمريكي، قبل فترة قريبة، حيث قال ما معناه “لو لم تكن إسرائيل موجودة لاخترعناها”.
قاطعه صديقي: “وماذا عن الجسر العائم الذي أعلنوا أنّه لإيصال المساعدات لأهل غزّة”؟
أجاب: “ذلك هو التّتويه بعينه، إنّه حصان طروادة العصري، ليمرّروا من خلاله تنفيذ مخطّطاتهم التي لم تتغيّر منذ اللحظات الأولى التي أُعلن فيها قيام الكيان الإسرائيلي، ولا يمكن لعاقل، أو مَن لديه مِسْكَة من عقل، أن يثق بأمريكا، ألم تسمع ما قاله بايدن منذ وقت قريب: “أنا صهيوني”، من (بعض) أهداف واشنطن إطالة الحرب للوصول إلى حلّ يكون لمصلحة “إسرائيل”، ولو أمكنهم الحسم في هذه المعركة الدّائرة لما تأخّروا لحظة واحدة، والجسر العائم قاعدة عسكرية لأمريكا”.
قال صديقي: “هل تقبل واشنطن بالهزيمة، على ما تملكه من آلة حربيّة؟”.
أجابه: “ما من مستعمِر يقبل بالهزيمة حين يُمكنه النّصر”.
قال صديقي: “وهذا الفارق الكبير في القدرات العسكريّة بين حلف المقاومة، وحلف أمريكا، بامتداداته العربيّة والإسلاميّة”.
أجاب: “كل الوطنيين الذين هَزموا أمريكا، وقبلها بريطانيا وفرنسا، لم يكونوا متعادلين في القوّة، وما نواجهه الآن سيكون نقطة تحوّل جذريّة في رسم معالم القادم، أيّاً كانت نتائجه”.

aaalnaem@gmail.com