درسٌ للعبرة
طلال ياسر الزعبي
جاء هذا الكلام في ثنايا حديث للرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي معقّباً فيه على الردّ الإيراني على العدوان الصهيوني الأخير على مبنى القنصلية الإيرانية في دمشق الذي راح ضحيّته عدد من المستشارين العسكريين الإيرانيين والمدنيين السوريين.
وأيّاً يكن من أمر فإن الردّ الإيراني الموعود قد أتى، وتوقّف العالم ليلة كاملة على قدميه يعدّ الدقائق حتى انتهاء الهجوم الإيراني المنظّم على أهداف عسكرية صهيونية داخل الأراضي المحتلة. ولا شك طبعاً أن “إسرائيل” ومَن خلفها من الدول الغربية وبعض دول المنطقة سيحاولون التقليل من شأن هذا الردّ حتى يُفقدوه أيّ ميزة استراتيجية على المدى البعيد، ولكن الهجوم حتى لو لم يقدّم هذه الميزة، حسب ظنّهم، فإنه أظهر للعالم مجموعة من الحقائق، أوّلها أن الولايات المتحدة ليست مستعدّة لحماية هذا الكيان اللقيط إلى ما لا نهاية، وأن هناك حدوداً لتورّطها في هذا الجانب، فهي قادرة بالفعل على ادّعاء حمايته في حال كان الخصم ضعيفاً أو متواضعاً في التعاطي مع الموقف، أما إذا كان هذا الخصم قويّاً ويستطيع فرض معادلاته على الجميع فإن الردّ الأمريكي سيكون، كما قال وزير الدفاع الأمريكي الحالي لويد أوستن، أنهم ليسوا في وارد الدخول في نزاع عسكري مع طهران، على الرغم من إبداء التزام بلاده الكامل بالدفاع عن “إسرائيل” وحماية أمنها، ولا ندري طبعاً كيف استقام الأمران.
فهذا الكيان اللقيط ما دام يستطيع تقديم خدماته الجزيلة للغرب دون تكاليف باهظة، يمكن للغرب أن يكون مستعداً لحمايته، أما إذا كان سيشكّل عبئاً عليه، وهو ما سيضطرّ الغرب من الآن فلاحقاً لوضعه في حساباته، فإنه ببساطة سيستغني عنه مكرهاً على مبدأ أقل الأضرار، لأن الدول الغربية بالمحصّلة لن تكون مستعدّة للإضرار بأمنها القومي والدخول في مغامرات خاسرة تزيد من خسائرها الفعلية الحالية أمام المعسكر الجديد الذي بدأ فعلياً بالتشكل، أي معسكر الجنوب العالمي الصاعد، في الوقت الذي يعاني فيه الغرب قلقاً وجودياً كبيراً نابعاً من استنزافه في جميع الجبهات التي تورّط فيها عبر الأطلسي من أوكرانيا إلى الصين، وظهرت بالفعل مشكلات خطيرة في اقتصاداته تنذر بخروجه القريب من التأثير في النظام العالمي.
والحال أن الواقع في العالم قد تغيّر كثيراً، والغرب الجماعي لم يعُد قادراً على فرض معادلاته على دول العالم، كما أن الصعود السريع لقوى عظمى مثل الصين وروسيا وإيران والهند وجنوب إفريقيا وغيرها، فرض واقعاً جديداً لا يمكن تجاهله، وبما أن الكيان الصهيوني بطبيعة الحال هو الوليد غير الشرعي للنظام العالمي المتهالك، فإن ما يحدث على ضفة الغرب الجماعي سيلقي بظلاله حتماً على هذا الكيان، ولن يستطيع التعاطي مع الواقع في المنطقة إلا من خلال التعامل مع جميع المعطيات الجديدة.
أما إذا أصرّ الكيان على الاستمرار فيما هو عليه من العنجهية والاستكبار وارتكاب الجرائم، وأقدم، كما يدّعي، على استهداف الجمهورية الإسلامية مرة أخرى، مدفوعاً بقلق وجودي نابع من انهيار نظرية الردع التي بنى عليها وجوده في المنطقة، فإن ذلك سيكون القشة التي ستقصم ظهر البعير، لأن كل ما سيفعله إذ ذاك هو التسريع بزواله من الوجود، حيث كان لعدوانه المستمر منذ نحو ستة أشهر على قطاع غزة المحاصر، آثار كارثية على جميع المجالات، سواء على الصعيد الاقتصادي أم العسكري أم السياسي، والأهم من ذلك سقوط البروباغندا الصهيونية المستمرة منذ نحو خمسة وسبعين عاماً التي استطاع من خلالها حجب الشعوب الغربية عن حقيقة كونه كياناً لقيطاً احتل أرضاً ليست له وهجّر أهلها منها، بل ارتكب أبشع جرائم الإبادة بحقهم، والصورة التي جسّدها خلال هذا العدوان اختصرت حقيقته، الأمر الذي أفقده أهم سبب من أسباب وجوده، وهو تأييد الشعوب الغربية له، وفقاً للدعاية القائمة المبنية أصلاً على أكذوبة المحرقة التي خرجت عارية بعد أن قام الكيان بارتكاب آلاف المحارق بحق الشعب الفلسطيني، بل بدأ الشارع الغربي فعلياً يتحدّث عن الوهم الذي عاشه طوال الحقبة الماضية حول أحقية هذا الكيان في الوجود، ولم يعُد غريباً أن تنتشر فيديوهات لمواطنين غربيين على وسائل التواصل الاجتماعي يعرّون فيها الأكاذيب الصهيونية، ويتهمون المهاجرين العكسيين القادمين من الأراضي المحتلة، بأنهم سفاحون وسفاكو دماء ومغتصبون للأراضي الفلسطينية، بل يؤيّدون بالمطلق عودة فلسطين إلى أصحابها الشرعيين وطرد المحتل الصهيوني منها.
وفي المقام الثاني، وهو الأهم، من وجهة نظرنا، تقف حقيقة أخرى لا يستطيع الغرب أن يغمض عينيه عنها، وهي أن هذا الكيان في الأساس يحمل بذور انهياره في داخله، وذلك لأنه لم يستطع بالمطلق أن يحقق شيئاً من أسباب قيام الدول، فالعلاقة التاريخية والانسجام في الأعراق المكوّنة له والانتماء والعقيدة، وهي أمور ضرورية في تكوين المجتمعات، مفقودة، وهذا يعني أن التدمير الذي سيتعرّض له بالدرجة الأولى هو تدمير ذاتي ناشئ عن التناقضات الكبيرة التي بُني عليها هذا الكيان من أساسه.
وبالتالي فإن العبرة التي تحدّث عنها الرئيس الإيراني ليست فقط في نوعية الردّ الذي تعرض له الكيان الغاصب، بل بكل ما يتعلّق بحتمية زواله من الوجود، وبأن الردّ يمثل حلقة واحدة فقط من حلقات تفكّك هذا الكيان وضعفه.