رقص السماح.. من حلب إلى دمشق
فيصل خرتش
ارتبط رقص السماح بالموشحات ارتباطاً وثيقاً، ويشكّل بحق أهم ملامح حلب الفنية وعرفته مدينة حلب دون بقية المدن السورية، وهو رقص ديني، كان يؤدّيه الرجال فقط في حلقات الذكر والزوايا الصوفية، ويسمّى هذا الرقص باسم “السماح” لأنه كان مسموحاً في الأوساط الدينية المحافظة، وتقول رواية أخرى: “إنّ السماح يعني الاستئذان من رئيس الطريقة الصوفية لتقديم الرقص الذي كان يتصف بالحشمة والأدب وبعده عن المجون والخلاعة، والابتذال”.
إنَ مبتكر رقص السماح هو الشيخ عقيل المنبجي المتصوّف الذي ولد في بلدة منبج التابعة لمحافظة حلب، وتوزعت إقامته بين حلب وبلدته، وتوفي ودفن في منبج عام 1731م، برع في فن الموسيقا، وألهمته براعته الموسيقية بتحويل نغمات وإيقاعات التواشيح الدينية التي كانوا ينشدونها في الزوايا ويضربون إيقاعاتهم بأيديهم إلى حركات موزونة تُؤدّى بالأرجل، وعلّم هذا الرقص لتلامذته على إيقاع التواشيح الدينية، وكان رقصاً رتيباً، يستمر الفصل منه مدّة ساعتين، وتقول بعض الروايات: “إنَ الفصل منه قد تصل مدته إلى أربع ساعات”.
واستمرّ رقص السماح رقصاً دينياً يؤديه الرجال فقط، حتى جاء موسيقيون أبدعوا في تلحين بعض الموشحات، واشتغلوا على هذا الرقص، فتطوّر تطوّراً كبيراً، وأخرجوه من إطاره الديني وجعلوا منه فناً راقياً، وبعضم أدخل العنصر النسائي في أدائه، ويرتدي الرجال في رقص السماح الأزياء الحلبية الشعبية، مثل: القنباز، أو الصدرية، والملتان والشروال، ويشدون على وسطهم الشال، مع الحذاء الحلبي الأحمر، أما النساء فيرتدين الألبسة الحريرية الفضفاضة مع الطرحة على الرأس، وتكون ألوان الألبسة النسائية زاهية مزركشة بتطريز الأغباني، وتؤدّى الرقصات على نغمات وإيقاعات الموشحات والقدود الحلبية التي تقدّم على شكل وصلات، وكلّ وصلة من مقام واحد، ولكلّ وصلة من الموشحات رقصة خاصة بها، فللرقصة الخفيفة الهادئة لها موشحات خفيفة الوزن، والرقصة السريعة لها موشحات ذات إيقاعات سريعة، تتسارع فيه الأصوات وتتلاحق فيها الكلمات، ولضارب الإيقاع دور مهمّ في إدارة حلقة الرقص، لكن دور الرجال فيه تقلص، إلى أن أصبح شبه معدوم.
واستطاع الفنانون أن يجعلوا من هذا الرقص رقصاً حيوياً جميلاً راقياً، إذ ابتكروا وصلات عديدة من السماح لم تكن معروفة من قبل، منها وصلات متماسكة من مقامات الرصد والحجاز والبيات على أوزان المحجر والمربع والمدور والمخمس والثقيل الدارج، ومن أجمل وصلات رقص السماح، تلك الرقصة التي تؤدّى على إيقاعات موشحات “يا عريباً في الحمى” و”إن طال جفاك يا جميل” وموشح “لمّا بدا يتثنّى” للملحن المصري محمد المسلوب، وبالإمكان مشاهدة هذه الوصلة البديعة من رقص السماح ضمن مشاهد فيلم “عقد اللولو” لدريد لحام ونهاد قلعي الذي أنتج عام 1964 وتؤدي رقصة السماح فيه فرقة أمية للفنون الشعبية.
وإذا كان رقص السماح فناً حلبياً صرفاً، فإنّ دمشق تعرّفت عليه بفضل جهود الزعيم الوطني فخري البارودي الذي تعرف على رقص السماح في حلب، فأعجبه وطلب أن يجري مثله في دمشق، إذ حضر البارودي مرة خلال إحدى زياراته إلى مدينة حلب حفلة لرقص السماح في منزل منير العمادي، وأقيمت له الحفلة وشاهد فيها رقصة السماح، فأعجب بها فطلب أن تنقل إلى دمشق، كان ذلك عام 1936 وفي العام ذاته استقدم الفنان عمر البطش إلى دمشق، وأسكنه في بيت له معدّ لمثل هذه الاستقبالات، وطلب منه أن يشكّل فرقة من طالبات دوحة الأدب وتدريبهنّ على رقص السماح، وقدّمت الفرقة على مسرح المدرسة حفلة ومن يومها عرّفت جمهور دمشق على رقص السماح، هذا الفنّ الراقي الذي كان له وقع جميل في النفوس.
في عام 1947 أسّس البارودي المعهد الموسيقي الشرقي بدمشق، وكان تابعاً لإذاعة دمشق، فاستدعى عمر البطش ثانية للتدريس في المعهد المذكور، الذي قام بتدريس فنّ الموشحات ورقص السماح، وتخرّج على يديه مجموعة من الموسيقيين المتخصصين بتلحين الموشحات ورقص السماح، منهم: عمر العقاد، عدنان إيلوش، بهجت حسان، وعدنان أبو الشامات، وتشكّلت فرقة من طلاب وطالبات جامعة دمشق وانتقل رقص السماح إلى دمشق، وأصبح فناً أساسياً من فنونها، كما قدّمت مجموعة من طلاب المعهد السابق، وصلة من رقص السماح أمام أم كلثوم في منزل فخري البارودي خلال زيارتها إلى دمشق عام 1955.