ثقافةصحيفة البعث

عبد الكريم الناعم: لا يستطيع النّقد تطوير تجربة المُبدع والشاعر ناقد نفسه

حمص ـ عبد الحكيم مرزوق
ولد الشاعر والباحث عبد الكريم الناعم في قرية حر بنفسه بمحافظة حماة، وتعلّم في الكتّاب، ودرس في حمص وحصل على أهليّة التعليم الابتدائي، ثمّ عمل في التدريس والإعلام والصحافة والإذاعة, وشغل منصب أمين سر في فرع اتحاد الكتاب العرب في حمص سنوات عدّة، وفي رصيده حوالي الأربعين كتاباً بين الشعر والدراسات الأدبية والفكرية.
أما رحلته الإبداعيّة مع الكلمة “الشعر” فيعرفنا على بداياتها بالقول: “نشأتُ في بيئة فقيرة ككلّ أبناء الفلاحين والعمّال، وقرأتُ في طفولتي “تغريبة بني هلال”، و”سيف بن ذي يزن”، و”ذات الهمّة”، وما أشبه، وفي نهاية المرحلة الابتدائيّة حيث درست في حمص بدأت أشعر بجيشان داخلي، وتمنيّات، وتهويمات، فكانت بداية تعبّر عن ذلك، وكان الشعر العربي الذي قرأناه في المدرسة يشدّني ويحرّك عواطف مُبهمَة، ربّما هي التي شكّلت فيما بعد تلك الرّكيزة، وكنتُ أشعر بحبّ كبير للكتب الأدبيّة، فكنتُ أذهب إلى المكتبات وأشتري بعض المجلاّت أو الكتب البائتة لعجزي عن شراء الكتاب الذي أريد، وبدأت بارتياد المركز الثقافي وكم من كتاب بالشعر طلبْته فلم أفهم منه شيئاً ككتاب “الصّناعتين” لأبي هلال العسكري، والحديث في هذا قد يطول”.
وحول تأثير البيئة في اتّجاهه نحو الشعر، يحدثنا: “نعم.. بكلّ تأكيد، فأنا ما زلت أحمل في أعماقي زرقة الفضاء في القرى، وقمر الصيف، والشتاء، والمهار، والخراف، والباري والطيور، وهجرة الطيور، ورائحة البابونج، والسنابل، وعودة قطعان الأغنام من المراعي، تلك العوالم ظلّت غضّة طريّة تمدّني بالكثير الكثير، وما سمعتُه من قصص في تلك المرحلة، وحين جئتُ إلى حمص تعرّفتُ عليها، وعلى بساتينها، وامتلأ صدري وروحي برائحة أزهار الأكاسيا فيها، وعرفتُ نهر “العاصي” النّظيف، الشروب، وتعرّفتُ إلى “تعليلاتها”، وأعراسها، ورقصاتها، والثياب العربيّة المُطرَّزة، وكان كلّ ما أراه مُتقَنا يشكّل مساحة من التّماهي معه بشكل ما”.
ويقسم الناعم أهم المحطّات التي مرّت في حياته إلى ثلاث، يوضح: “البدايات، منذ أن نشرتُ أوّل قصيدة في مجلّة “الآداب” البيروتيّة، ومنذ صدور مجموعتي الشعريّة الأولى عن وزارة الثقافة عام 1965 واستمرّت تلك المرحلة حتى صدور مجموعتي “من مقام النّوى” عام 1988 الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب، وبعدها دخلتُ في مرحلة جديدة من النّاحية الفنيّة، البنائيّة، وكان قد صدر لي أكثر من مجموعة خلال هذه السنوات، وبدءاً من مجموعة “من ذاكرة النّهر” الصادرة عن دار “ورد” بدمشق عام 1999 أرجّح أنّني انتقلتُ إلى أفق آخر، وأعني بنائيّة النصّ، وتشييده، وصوره، وكلّ ما يتعلّق بروحيّة الشعر، وظلّت الهموم الذاتيّة والعامّة هي الغالبة على شعري”.
لكن كيف ارتقى شعره إلى مرحلة التصوّف؟ يجيبنا: “مذ تفتّحت قريحتي على طرح الأسئلة الوجوديّة، وهي مرحلة باكرة، حتى أنّني لا أستطيع التحديد، لكنها بدأت باكراً، يرافقها شيء من القلق الكونيّ والتساؤلات الكبرى، وقد كنتُ في ذلك أعبّر عن هواجسي، وعن نفسي، وليس كما يركب البعض هذه الموجة بعد انكسار موجات الصراع الطبقي، والأيديولوجي بعامّة، فنزح مَن نزح باتجاه هذه الأفاق، تقليداً، وتخلّصاً، وزعمَ مُواكبة، إنّ مَن يعود على مجموعتي “أمير الخراب” الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب عام 1992 سيشمّ رائحة ذلك الشياط الصوفيّ، ومن المسلّم به أن بين الصوفيّة والشعر مسافة رحِميّة، قيل فيها الكثير من أهل الشرق ومن أهل الغرب، وأعود فأؤكّد أنّ ما من معاناة لي في هذا المجال إلاّ وكنتُ المُحترق بلطائف هبّاتها التي لا أدري من أيّة عوالم تجيء.
وفيما إذا تشتّت كل الأنواع الأدبية والصحفية ذهنه عن موهبته الأساسيّة، يبين الناعم: “لا أنكر أنّها قد تترك تشويشاً في ذهن صاحبها في وقوفه أمام الأولويّات، ولقد حرثت في هذه الحقول التي ذكرتَها، وأرى أنّ السؤال الذي يُفترَض أن يُطرَح هو هل قدّمتُ شيئاً مُفيداً في هذه الحقول التي زرعتُها، فإنْ كان الجنى وفيراً، وطيّباً فلا بأس، وإلاّ فلا”.
يرد اسم “عنود” كثيراً في قصائد الناعم، وقد أفرد لها ديواناً كاملاً، فمَن هي؟ يجيب: “عنود، بحسب تفصّلاتها في القصائد، هي رمز بمقدار ما هي حقيقة، وهي امرأة القصيدة في كذا نصّ كتبتُه وذكرتُها فيه، ولذا فهي تتلوّن بحسب ألوان شفق النصّ الذي ترد فيه”.
وبسؤاله عن رأيه بمسيرة النقد الأدبي، يوضّح النّاعم أن النّقد من حيث وجوده جاء تاليّاً للنص، وهذا لا يغضّ من قيمة النّقد العميق الذي يفتح أبواباً للوعي بالنصّ، والتّنظيرات النقديّة على اختلاف مدارسها جاءت تالية، مضيفاً: “لا يستطيع النّقد تطوير تجربة المُبدع، لكنّه قد يفتح كوى للشاعر لملاحظة دقائق لم يكن يراها من قبل، فالشاعر هو ناقد نفسه الأوّل، وإن لم يكتب في النّقد، وأنا أعني “المُبدع” لا أيّ تمرينات على كتابة الشعر أو ادّعاء له.
وفيما إذا كان الشاعر النّاقد قادراً على كتابة شعر أكثر تطوّراً وتميّزاً من الشاعر الموهوب الذي لا يلتفت إلى النقد والنقاد، يبيّن الناعم: “من المسلّم به أنّه في داخل كلّ شاعر ناقد، وهذا ينطبق على بقيّة الأجناس الأدبيّة، فهو يكتب، وقد يُراقب أثناء الكتابة، وقد يكون ذلك بعد الانتهاء من كتابة القصيدة، وليس ضروريّاً أن يكون الشاعر النّاقد متميّزا على الذي لا يكتب النّقد، فبدويّ الجبل وأبو ريشة وأمثالهما لم يكتبا في النّقد، إذاً الموهبة هي الأساس، وأعني الموهبة التي عبّت بوعي من الثقافة، ومختلف مجالات الحياة”.