الصفحة الاخيرةحديث الصباحصحيفة البعث

موت.. معلن!

حسن حميد

أجل..!!
كل شيء قابل للمغايرة والتحوّل وتعددية الوجوه، والصورة، وكل شيء قابل أيضاً أن ينتقل من ضفة إلى أخرى، ومن شكل إلى آخر، بما في ذلك القيم، فما كان يعد منها نبيلاً، من الممكن أن يعد الآن بخساً ودونياً، وأن يجد له من الأصوات والآراء ما يرفع رتبته ومقامه، وأيضاً هي حال الفنون والآداب، فما كان مرجواً ما عاد كذلك، وما كان حلماً ما عاد كذلك، وما كان جميلاً ناله البهتان، واخترمته الألوان السود.
أقول هذا، وأنا أرى ما يحدث في بلادنا العزيزة فلسطين، فقد حدث مثله قبلاً، وعلى نحو انقضاضي، ومفاجئ، وصاعق.. أعني الاحتلال، والقتل، والتدمير، والبطش، وتشريد الناس من قراهم ومدنهم ومخيماتهم، واعتقالهم، لكن لم يحدث من قبل مثل هذا التغوّل الدموي البشع للإسرائيليين في الأراضي الفلسطينية، كما لم تحدث، من قبل، مثل هذه الاستمرارية في سفك الدماء على الدماء، وتدمير المدمّر فوق المدمّر، وتغيير خرائط المكان فوق خرائط المكان التي تعرّضت للمغايرة دائماً، ولإفساد كل شيء ونقله من عالم الحياة إلى عالم الموت والعدم، والتباهي بالغطرسة والقوة والعنصرية واقتران الإبادة وسياسات “جز العشب”، و”الأرض المحروقة”، و”القرى بلا بيوت”، و”المدن بلا شوارع”، و”المكان بلا سكان”، و”التدمير السجادي”، و”الطبيعة بلا تلال أو جبال”، و”الاستبصار عن بعد”.. إلخ.
أقول هذا، والإسرائيليون يهمّون باحتلال منطقة رفح (55 كم2)، وفيها اجتماع أهل غزة الباقين (حوالي الـ 1.8 مليون) بعد أن نسّقوا الأمر مع الأمريكان، وأيديهم المعوان في المحيط المكان، أعني من يتعاونون مع الأمريكان، وينفّذون أوامرهم الهاتفية والبرقية على وجه السرعة، وبعد أن نسّقوا الأمر وفق خرائط، وتوجّهات، وغايات تعرّضت إلى المحو مرّات ومرّات، مثلما تعرضت للمضايفة مرات ومرات، إنهم يريدون احتلال رفح، وفيها كل أهل غزة تقريباً، وتحت ذريعة “تحقيق النصر”، أو تحت ذريعة الوصول إلى “ذروة النصر”، أمريكا، ودول الغرب، قالوا خلال الشهور المنقضيات إنهم ضد احتلال رفح، وضد المزيد من قتل الفلسطينيين المدنيين، وإنهم مع ادخال المساعدات، والدخول مباشرة في مفاوضات تبادل الأسرى.. لكن مثل هذه الطروحات، ومثل هذه الآراء ما عادت تسمع اليوم في تصريحاتهم الجدية، ولا في نبر كلماتهم وخطاباتهم ينذر الإسرائيليين، أو يهددهم بما لا يحبّون إن دخلوا إلى رفح، لأنّ دخولهم يعني ارتكاب إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في مساحة مزدحمة جداً.

أمريكا والغرب قابلون للمغايرة والتحول ليس وفق ما قلته آنفاً، بأنّ الزمن يغيّر القيم ويبدّلها، وأنّ أهواء الناس وأمزجتهم وأحلامهم تغيّر أحوال السلوك، وتغيّر زوايا النظر، وإنما يتغيّر الأمريكان والغرب، وفق ما يقوله الإسرائيليون، فلا رأي يسمع عن منطقتنا سوى رأي الإسرائيليين، ولا صورة أو طروحات يقتنعون بها سوى ما يقدّمه الإسرائيليون، لهذا طالب الأمريكان والغرب بصورة تقريبية أو خطة عسكرية تبدي كيفية احتلال الإسرائيليين لرفح، وهم بذلك يريدون المعقول والمحسّن من احتلال الإسرائيليين لرفح، ولا يريدون كفّ يدّ الإسرائيليين عن احتلالها، واقتراف المزيد من القتل والتدمير والتشريد بعد قتل أكثر من 34 ألفاً، وجرح أكثر من 77 ألفاً من الفلسطينيين.
بلى، الحال، وتهديدات الإسرائيليين باحتلال رفح، تشبه ما جاء في رواية الكولومبي ماركيز “موت معلن”، ولبّ الرواية سطر واحد، قد يكون طويلاً، وهو أنّ اثنين من أهل البلدة يعلنان أمام الجميع، وفي كل مكان يوجدان فيه، عن أنهما سيقتلان عاشق أختهما، لأنه أساء إليها، وقد أرادا من هذا الإعلان أن يخرج أحد ما من البلدة ليقول لهما، هذا عيب، وأنّ العاشق لم يسيء إلى أختكما على الإطلاق، لكن ذلك الأحد لم يظهر، فأمعن الاثنان في التهديد والوعيد، حتى قتلا العاشق نهاراً ـ جهاراً، والإسرائيليون يفعلون فعلهما، أما العالم فهو مكتوف الأيدي، وفي خرس عجيب، لكأنه فقد الإحساس بالأشياء، وفقد العقل والحكمة والمشاعر، وأنّ قيم الحق والخير والجمال تغيّرت وتحوّلت إلى قيم قبيحة جداً، لكنها، للأسف، مطلوبة ومرغوبة.
ترى هل يتفرّج الأمريكان والغرب على ما يحدث في غزة والضفة الفلسطينية بوصفه فيلماً سينمائياً كل ما فيه خيال في خيال، ترى ألا يرون الدم والموت والدمار وما يخلع القلوب من الصدور، ألا يرون دفن القيم وطيها، أم أنهم يتمنون لو أنهم كانوا أبطالاً لهذا الفيلم.
بلى، ربما هو الحنين، حنين أمريكا إلى أيام فيتنام، وأيام الهنود الحمر، وحنين الغرب إلى كل صور الاستعمار التي رسموها بالألم والظلم والسحق والمحق ودوس كل نبيل!
ربما.. هي الحال كذلك.

Hasanhamid55@yahoo.com