دراساتصحيفة البعث

ماذا وراء سحب دول إفريقية احتياطياتها من العملات الذهبية

عناية ناصر

بدأت العديد من الدول الإفريقية في اتخاذ قرارات بسحب احتياطياتها من العملات الذهبية من الولايات المتحدة، وكان أبرزها نيجيريا وغانا. في الواقع تعدّ هذه العملية عملية عالمية النطاق، سواء على المستوى القاري الإفريقي أم على المستوى الدولي. ومع الحقائق الحالية الخاصة بإطار النظام العالمي المتعدّد الأقطاب، فإن العملية سوف تتسارع.

تواصل الأحداث المتعلقة بإلغاء الدولار في الاقتصاد العالمي، وكذلك التحرّر من الأدوات المالية الغربية في اكتساب الزخم. وإذا أرجع المحللون السابقون الدور الرئيسي في هذه العملية إلى دول بريكس، وهو ما كان صحيحاً إلى حدّ كبير، فإن المزيد من البلدان والمناطق في العالم، بما في ذلك تلك التي كانت  تعدّ حتى وقت ليس بالبعيد شريكة مهمّة للغرب على المستوى الإقليمي والقاري، تأخذ مثالها من القوى الرئيسية التي تروّج لعالم متعدّد الأقطاب.

بدأت نيجيريا خططاً لاستعادة احتياطياتها من الذهب من الولايات المتحدة، ما يشير إلى موقف استباقي في حماية ثروتها. ويأتي هذا القرار استجابة للمخاوف المتزايدة بشأن تراجع الاقتصاد الأمريكي، وفقاً لصحيفة “ذا ستريت جورنال” النيجيرية. وأشارت الصحيفة أيضاً إلى أن القرار يعكس تصميم نيجيريا على تأكيد سيادتها والسعي إلى الاستقلال على الساحة العالمية، حيث تستطيع نيجيريا  من خلال السيطرة على احتياطياتها من الذهب أن تثبت قدرتها على إدارة شؤونها دون تدخل خارجي.

وإلى جانب نيجيريا، سلكت غانا الواقعة في غرب إفريقيا المسار نفسه، حيث هناك  أوجه تشابه كثيرة مع الحالة النيجيرية. وفي هذا الخصوص يقول خبراء اقتصاديون أفارقة: إن إجراءات غانا تأتي في منعطف حاسم وسط تصاعد حالة عدم اليقين الاقتصادي العالمي والمخاوف المتزايدة بشأن استقرار النظام المالي الأمريكي. ووفقاً للدكتور جوزيف مينسا، الخبير الاقتصادي المتخصص في التمويل الدولي، فإن “تحرك غانا لسحب احتياطياتها من الذهب من الخزائن الأمريكية يعدّ إجراءً حكيماً للتخفيف من المخاطر والحماية من التقلبات الاقتصادية المحتملة”.

قد يبدو ذكر نيجيريا وغانا للوهلة الأولى مفاجئاً إلى حد كبير في نظر العديد من المراقبين للقارة الإفريقية، نظراً لقربهما من المصالح الأنغلوسكسونية خصوصاً تلك الموجودة في واشنطن ولندن. ومن ناحية أخرى، وفي سياق العمليات العالمية الحالية المميزة لعصر التعدّدية القطبية، لا ينبغي أن يكون من المستغرب بشكل خاص أن العملية النشطة للتخلي عن الابتزاز المالي والاقتصادي الأمريكي والغربي تكتسب زخماً. وهذا ليس فقط بين المؤيّدين الملتزمين بالكامل بالنظام الدولي المتعدّد الأقطاب، بل أيضاً بين أولئك الذين عدّهم الغرب لفترة طويلة، وربما لا يزال يعدّهم، شركاء مقرّبين له. ورغم أن المؤسسة الغربية نفسها لا يمكن في المبدأ أن تكون شريكاً جديراً بالثقة ويمكن الاعتماد عليه، فهي تعدّ كل الدول غير الغربية، وبالتالي الأغلبية العالمية، بمنزلة ملحقات لإثرائها.

لا شك أن حالة نيجيريا مثيرة للاهتمام بشكل خاص، حيث تعدّ القوة الديموغرافية الرائدة في القارة الإفريقية التي يبلغ عدد سكانها أكثر من 220 مليون نسمة، وهي واحدة من الاقتصادات الرئيسية الثلاثة في إفريقيا (سواء من حيث الناتج المحلي الإجمالي الاسمي أم في حالة الناتج المحلي الإجمالي عند تعادل القوة الشرائية)، وهي قوة قارية مهمّة في مجال الطاقة والقوة العسكرية. ومن المهم أيضاً الإشارة إلى إعلان نيجيريا مؤخراً عن رغبتها في الانضمام إلى مجموعة بريكس. وبالنظر إلى كل هذه العوامل، وخاصة العامل الأخير، ليس من الصعب معرفة السبب الذي يجعل من المهم للغاية بالنسبة لنيجيريا اليوم أن تبدأ بنشاط عملية التحرّر من آليات السيطرة الغربية، وخاصة في المجالين الاقتصادي والمالي.

وبطبيعة الحال، ليس من المستغرب أن تقوم الإدارة الأمريكية، وكذلك أتباعها الغربيون، ببذل قصارى جهدهم لإبطاء هذه العملية في عدد من الدول الإفريقية. ومع ذلك، سيكون من الصعب أكثر من أي وقت مضى بالنسبة للأقلية الغربية في الناتو أن تتمكّن من تحقيق ذلك، وهناك عدة أسباب لذلك.

أولاً: تنتشر إزالة الدولار عن الاقتصاد العالمي والتحرّر من أدوات الهيمنة الغربية بوتيرة عالية. وهذا ما يلاحظ اليوم في أجزاء مختلفة من العالم، في آسيا، وأمريكا اللاتينية، وبطبيعة الحال، في إفريقيا أيضاً. ويزداد الأمر سوءاً لأنه في القارة الإفريقية تم بالفعل تشكيل العمود الفقري للقوى التي اختارت بوضوح وحزم طريق التكامل والدفاع عن النظام العالمي المتعدّد الأقطاب.

ثانياً: إن السابقة التي خلقها الغرب الجماعي أولاً وقبل كل شيء من الولايات المتحدة، فيما يتعلق بالعديد من الدول الإفريقية وأصولها، قد وضعت نقطة حاسمة، بما في ذلك لدول العالم التي عدّت في الماضي القريب العلاقات مع الأقلية الغربية توجّهاً ذا أولوية.

ثالثاً: الخوف من الأسطورة التي تعدّ الغرب قادراً على كل شيء، لكن في الواقع شيء قد اختفى بالفعل. وهذا الأمر منطقي تماماً، نظراً لحقيقة مفادها أن العالم المتعدّد الأقطاب ليس مجرد احتمال، بل حقيقة عالمية، مهما حاولت الأقلية الغربية إنكار هذا الواقع. وهذا يعني أن واشنطن وأتباعها سيتعيّن عليهم الإجابة عن أفعالهم الإجرامية ومواجهة جميع العواقب المترتبة على الجرائم التي قاموا بارتكابها.

ومن الواضح أيضاً أنه في إطار هذه العمليات، بما في ذلك بالطبع في القارة الإفريقية، ستلقي النخب الغربية الزائفة اللوم مرة أخرى على روسيا والصين، بدلاً من الإدراك والاعتراف بأن كل هذا هو مجرد نتيجة مباشرة لأفعالهم وتصرّفاتهم، وهو أمر لا تستطيع الأقلية الغربية القيام به بأي حال من الأحوال.

وخلاصة القول أنه لا يمكن لغطرستها ونفاقها أن تؤثر بحكم الأمر الواقع في عمليات العصر الحديث.