ثقافةصحيفة البعث

في يومه العالمي.. هل ما زال الشعر يبشرنا بالخلاص؟

جمان بركات 

تحتفل اليونسكو سنوياً باليوم العالمي للشعر الذي يذكرنا بقوة الكلمة المكتوبة حيث يعيد الشعر تأكيد إنسانيتنا المشتركة، كما يخاطب القيم الإنسانية التي تتقاسمها كلّ الشعوب. وحسب مدير عام منظمة اليونسكو، أودري أزولاي، فإن “الشِعر ركن من أركان كينونتنا فهو قوت القلوب الذي نحتاج إليه جميعاً، رجالاً ونساءً، نحن الذين نحيا معاً الآن وننهل من معين تراث الأجيال السابقة ما يعيننا على مواصلة حياتنا، ونحن المؤتمنين على هذا العالم الذي سيعيش فيه أولادنا وأحفادنا”.

ويعتبر اليوم العالمي للشعر فرصة لتكريم الشعراء ولإحياء التقليد الشفهي للأمسيات الشعرية، فالشعر يحوّل كلمات قصائده البسيطة إلى حافز كبير للحوار والسلام والتسامح والحب والعطاء، لذا خُصّص يوم دولي لتتقاسم الشعوب أيضاً الاحتفال به، وإن الاحتفاء بيوم الشعر هو تأكيد على أننا شعب حضاري نواكب الثقافة والأدب ونتخذ منه دليلاً ومرشداً لنا لنبني ونطور مجتمعاتنا، وقد تم  اختيار 21 آذار يوماً عالمياً للشعر بهدف دعم التنوع اللغوي من خلال التعبير الشعري ودعم الشعر، وتعزيز تدريسه وإحياء الحوار بين الشعر والفنون الأخرى.

وتختلف الآراء وتتباين حول الشعر وأهميته كضرورة وحامل للوهج الإبداعي، فهناك من يرى في الشاعر حالة خلاص أو نبي يؤمن أن الشعر قادر على تغيير وجه التاريخ وتخليص البشرية من هزائمها، وهناك من يرى أنه لم يكن في يوم من الأيام من مهمة الشعر أن يغير وجه التاريخ، لأن الفن دائماً يريد أن يوقظ الإنسان على إنسانيته الأعمق، وعندما ينصرف الناس إلى أجهزة الكمبيوتر وعالم الانترنت، فالشاعر هو الذي يعيد إليهم إحساسهم ويعرّي الإنسان قليلاً من عنجهيته واعتداده بما أنجز المشروع التقني من تقدم علمي، فالشعر يذّكر الإنسان أنه كان في بدائيته يغني فيعود الصدى إليه فيظن أن العالم يغني معه، ويجب على الشعر أن يبقى حاملاً لهذه الرؤية حتى لو كانت وهماً، فالمهمة الحقيقية للشعر أن يستمر بتبشيرنا بالقدرة على الخلاص، وعلى التجدد والولادة الجديدة، ولا شك أن هذه تبقى وظيفة الشعر في كل زمان ومكان، والذي يختلف أحياناً هو طريقة حمل القصيدة لهذه الوظيفة، فهناك أشكال لانهائية يمكن أن يبتدعها الشعر من أجل حمل هذه الرؤية للمتلقين أو القراء، وضمن هذه الأشكال قد يتم توظيف إنجازات جمالية قديمة ومعروفة في إطار جديد من خلال التفاعل مع مجموعة من الرؤى والمعطيات الجمالية الجديدة لإنجاز عمل فني جديد.

وفي زمن طغيان الانترنت وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي اختلطت مفاهيم تعاطي الشعر إذ أفسحت هذه الوسائل المجال لكل من رأى مناماً أن يحوله إلى شعر، وهناك من لا يفرق بين القصيدة الجيدة والقصيدة الرديئة، وربما هذا مؤشر ضمن هذه الفوضى أن هذا الزمن لم يعد زمن الشعر، لكن المؤمنون بالشعر يرفضون هذا الكلام مؤكدين أنه لا يوجد زمن ليس زمناً للشعر، ويوضحون وجهة نظرهم بالإشارة إلى أنه من مميزات هذا الفن أن يبقي على شعور أنه متأزم، وفي مراجعة للحقب التاريخية كلها نجد أن الشعراء الحقيقيين دائماً يشعرون أن زمنهم الذي يعيشونه لم يعد زمناً للشعر، وهذا مرتبط بطبيعة هذا الفن نفسه، ولأن الشاعر يمثل صوت الجوهر الإنساني، فإنه يشعر دائماً أن هذا الجوهر مهدد باستمرار، ولذلك يسعى للتشبث بأشد الصفات التصاقاً بهذا الجوهر الإنساني والتي يجسدها الشعر، فالشاعر أوفيد مثلاً عندما كتب كتابه “فن الهوى” في مطلع فجر التاريخ الميلادي، يقول في المقدمة: “أنا آسف أني أتيت في زمن ليس زمناً للشعر، فقد ولي الزمن الذي كان الشعر فيه مؤثراً في الحياة والناس، فمنذ فجر التاريخ يشعر الشاعر أن زمن الشعر قد ولى، ولكن لا يمكن لزمن الشعر أن يغيب لأنه مرتبط بالوجود البشري”.

لكننا في ظل هذه المتغيرات  كلها نتساءل عمّا إذا كان في زمننا هذا من جديد يمكن أن يقوله الشعر ولم يقله إلى الآن، ليجيبنا البعض بأنه ما زال الكثير أمام الشعر ليقوله، لأن الشعر ملازم للوجود البشري، وهذا الوجود يطرح أسئلة جديدة باستمرار، وعلى الشعر أن يستبق هذه الأسئلة دائماً، وأن يفتح لنفسه وللإنسان أيضاً آفاقاً جديدة للتساؤل والدهشة واكتشاف جمال الحياة من حوله بشكل عام، وحتى على الصعيد الشخصي هناك إشكالية يعرفها كل من جرب كتابة الشعر، تتعلق بطبيعة اللغة، فالقصيدة التي تكون مرسومة في ذهن الشاعر هي غير القصيدة التي نراها على الورق، فلا يمكن لهذه اللغة بالمواصفات التي ورثناها من غيرنا أن تكون قادرة على نقل أحاسيس ورؤى الشاعر بشكل حقيقي، وتجسيدها في هذه الكلمات، ولذلك الشعر الصافي والكامل هو حلم وهدف ومبتغى كل شاعر، ولكنه الهدف والمبتغى والأمنية التي يعرف الشاعر سلفاً أنه لا يمكن تحقيقها.

وانطلاقاً من كل الأفكار والآراء التي طرحت وتطرح حول الشعر، يبقى هناك شبه اتفاق بين الشعراء والمهتمين بالشعر على أنه ما زال يحمل الوهج ويمثل الضرورة الأهم التي لابد منها والتي تخفف عنا وطأة الحياة بكل تناقضاتها ومفارقاتها، وكلما ازدادت قسوة الحياة وفوضاها كلما تنامى الإحساس بوجود الشعر وضرورته عبر أشخاص متباعدين في أماكن مختلفة لا يعرفون بعضهم لكن تجمعهم محبتهم للشعر وتعاطيهم له وحفظه وقراءته، وهناك أيضاً تلك التجليات الروحية التي يبثها فينا الشعر والتي تجعلنا نرى جماليات الأشياء على غير ما يراها الآخرون الذين حرموا من متعة الشعر والحياة معاً، ولابد للإنسان من اللجوء إلى الشعر الذي ينقذه من فوضى حياته وتشتتها، فقد يمر الشعر في أزمة ويكاد أن يموت لكنه لا يموت ويستمر،  وهذا الأمر موجود منذ بداية البشرية وإلى يومنا هذا، ففي كل عصر كان هناك شعراء يشكون من عدم وجود قرّاء للشعر، وفي هذه الأوقات العصيبة نرى الكتاب الشعري في أزمة وأنه لا يباع وأن القصيدة الحقيقية لا تنشر، لكن الشعر لا يموت وتبقى له الضرورة.