الصفحة الاخيرةحديث الصباحصحيفة البعث

دوائر

عبد الكريم النّاعم

أمضى هو وأولاده زمناً في الغربة، وكان قبلها يعمل في الوطن أكثر من مهنة، ممّا يسّر له أن يكون في بحبوحة من العيش، أولاده موزَّعون بين دولة الإمارات وبريطانيا، ورغم ما هم فيه من رفاه، فقد شدّه الحنين وزوجته إلى العودة، فاجأني بزيارته، مازال منتصب القامة، بشوشاً، سألتّه عن أحواله، فقال متأفِّفاً:” كلّه كوم، وما أعانيه بعد عودتي كوم آخر، بريطانيا وما هي عليه من تقدّم لم تنسني وطني فعدْت، ثمّة أشياء كثيرة تحتاج لمتابعة في الدوائر الرسميّة، يا أخي ما معقول حجم التعقيد!! وكيفما تحرّكت لازم تفتّ”.

قاطعتُه: “شو فتّ شو عم تلعبوا بالشدّة”؟

قال: “أيّ شَدّة؟! شِدّة .. نعم، بس الفتّ خمسين عَ الماشي، تدفع لمن هو وراء الطاولة خمسين، وتنتقل لجاره فتدفع خمسين”.

سألتّه: “خمسين شو”؟

قال: “خمسين ألف”.

بدا على وجهي الاستنكار، فتابع: “خمسين ألف، ..الفتّ ما هو مشكلة، المال موجود والحمد لله، ولكنْ النفوس المريضة مؤذية، يعاملك الموظّف، وهو يأخذ منك ما أخذ، ويظهَر على وجهه أنّه متأفّف، حتى لكأنّك جئت تستجديه، تصوّر أنني وأنا أعيد تجديد شهادة قيادة السيارة أنّ شخصا ما نظر في الأوراق، ثمّ قال لي: “إمش حتى نهاية الغرفة”، فمشيت. قال :”ارجع فرجعت”، قال: “إمش على كعبيك”، فمشيت. قال: “اجلس القرفصاء وقُمْ”، فنفّذنا، وكان صبري قد نفد، فقلت له: “أنا في السبعين من العمر، وأنت في عزّ شبابك، قمْ لنتسابق في الركض، فإذا لم أسبقك فافعل ما تشاء”، فنظر إليّ من فوق، ووقّع الأوراق، وناولني إياها”.

قاطعتُه: “ما معقول هذه فحوص لها علاقة بمسائل عصبيّة كما أعرف، فما علاقة هذا بتجديد شهادة سوق سيارة”؟!!

قال: “الله وكيلك هذا ما جرى…”

في سرّي كنتُ أقول: “تستطيع أن تعيد ما تَدمّر من أبنية حين يتوفّر المال، فكم نحتاج حتى نرمّم هذا الانهيار الأخلاقي المُفزِع؟!”.

****

مواطن له مُراجعة في دائرة من دوائر الدولة، وهو رجل بسيط ربّما يتهيّب دخول  الدوائر الرسميّة. قالوا له: أوراقك تحتاج لموافقة من دائرة كذا، فذهب الرجل وانتظر من الضحى حتى كاد ينتهي الدوام، فسأل السكرتيرة: “فيني شوف المدير؟”. نظرتْ باستعلاء إلى ما بيده، وقالت له: “هذه تحتاج لموافقة من دمشق”، عاد الرجل خائبا.. إلى أين يذهب في دمشق؟!!  وبمداخلة بسيطة حُلّتْ الأمور دون سفر، لأنّها أصلا من صلاحية المديرية التي ذهب إليها،

يا مدراء،. يامَن بيدكم أن تُدخلوا هذا وترفضوا دخول ذاك، لا لسبب إلاّ انصياعاً لدوافع نفسيّة، وقد تكون غير نفسيّة؛ أنتم جميعا تتقاضون رواتبكم من جيب هذا الشعب الذي تتعالون عليه، وعلاقاتكم بالناس علاقة واجب وطني، ديني، وأخلاقي، وإنساني، فإذا لم تستجيبوا لذلك فهذا يعني عدم أداء الأمانة الموكلَة لكم، وسيكون الحساب عليها عسيراً بين يدي ربّ العالمين، لأنّكم استهنتم بعيال الله الذين من أحبّهم كان ممّن أحبّه الله، ومَن أساء إليهم أساء إلى عائلة الله.. “الخلق كلّهم عيال الله، وأحبّهم إلى الله أنْفعهم لعياله” (حديث نبويّ).

إنّ موقع الوظيفة في الشأن العام ليس أداءً فارغاً، ولا عملاً روتينيّاً، بل هو بشكل ما يدخل في أبواب التعبّد، يقول أحد الفقهاء الربّانيين:

“أنا في اعتقادي كلُّ فِعْلِ الواجباتِ من العبادة”، وهذا يعني أنّ مَن يقصّر في أداء هذا الواجب يكون قد أخلّ بواجب عباديّ.

أذكّر بأنّه من المتّفق عليه إسلاميّاً أنّ الله سبحانه وتعالى قد يعفو عن التقصير في عبادته، ولكنْ لا تَهاوُنَ في حقوق العباد..

aaalnaem@gmail.com