الصراع في غزة والانتخابات الأميركية
د خلف المفتاح
بعد مضي أكثر من عشرة أشهر على معركة طوفان الأقصى، وفي ظل التطورات الحاصلة في ديناميات المواجهة بأشكالها العسكرية والسياسية والإعلامية، وارتداداتها على المشهد الدولي مع اشتغال على ما سمي صفقة بين المقاومة والكيان الصهيوني، والتي يبدو أنها أشبه ما تكون بطبخة “بحص” لا يمكن أن تنضج لجهة أن الطرف الإسرائيلي غير جاد في الوصول إلى اتفاق، ولا زال يراهن على تحقيق بنك الأهداف التي أعلن عنها في اليوم الثاني للحرب، وهي السيطرة على غزة، والقضاء على المقاومة واستعادة الأسرى والمختطفين، وذلك عبر الضغط العسكري الذي يجبر المقاومة على القبول بشروطه.
فالواضح أن نتنياهو فشل في التعويل على الضغط العسكري، وبدأ بالتركيز على الضغط الشعبي على المقاومة وقيادتها من خلال معاناة الشعب الفلسطيني في غرة، وظروف حياته القاسية بفعل التدمير الممنهج لكل عناصر الحياة، بحيث تصبح غزة جغرافيا طاردة للسكان، وغير قابلة للحياة، فيكون الفلسطينيون مجبرين على الهجرة القسرية، وهنا يتحقق الهدف الصهيوني بإخلاء فلسطين من سكانها لتكون أرضاً يهودية خالصة.
لقد أصبح نتنياهو وعصابته يدركون أن كل أوراق الضغط الدولي عليهم قد استنفذت سواء ما شهده العالم من مظاهرات وصدور قرار من محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية وقرار مجلس الأمن بخصوص وقف إطلاق النار، أو القرارات المتعلقة بالصراع القائم، وبالتالي لم يعد هناك ما يؤثر عليه، لذلك نراه يمارس كل خياراته بحرية وبيد مطلقة ولاسيما بعد زيارته للولايات المتحدة الأميركية، وما لقيه من تأييد وتشجيع من الإدارة الأمريكية، على الرغم من قناعته أن مناخات واشنطن تجاهه لم تعد كما كانت، إضافة للمزاج الشعبي الأمريكي المعبر عنه عبر المظاهرات والاحتجاجات التي رافقت زيارته وصدور تصريحات من قوى فاعلة في الساحة الأميركية تدين إجرامه في غزة، وتندد بزيارته واستقباله من النخب السياسية الأمريكية حيث وجد نفسه في ملعبه.
وأمام هذا الواقع وعدم جدوى كل ما جرى من أحداث ومواقف إقليمية وعربية ودولية ومؤسساتية وشعبية يطرح السؤال ترى ما هو المطلوب والممكن من أدوات للضغط عليه لجعله يوقف عدوانه وحرب الإبادة التي يشنها على الشعب الفلسطيني وسكان غزة على وجه التحديد؟
هنا تبرز الإجابة المنطقية المتمثلة في ضرورة استمرار المقاومة في غزة، وباقي المناطق الفلسطينية، وجبهة الشمال المتمثلة في المقاومة الوطنية اللبنانية، وكذلك جبهات الإسناد في محور المقاومة، وضرورة توسيعها. يضاف إلى ذلك موقف عربي حقيقي ضاغط على الأميركي من خلال مصالحه الواسعة في المنطقة وأهميتها الإستراتيجية بالنسبة له، سيما وأنه يخوض مواجهة عسكرية مع الروسي في أوكرانيا، ومنافسة اقتصادية وإستراتيجية مع الصين الصاعد بقوة، إضافة لموقف عربي ضاغط على الإسرائيلي ولاسيما من مصر وبعض الدول الأخرى المتعاملة معه وتقيم معه علاقات دبلوماسية واقتصادية وشراكات أمنية، إضافة إلى إيقاف عجلة التطبيع معه، وتوقف التحرك باتجاه ما سمي صفقة القرن والاتحاد الإبراهيمي المزعوم، إلى جانب أهمية اتساع وتوسيع دائرة الحرب بدخول أطراف أخرى لازالت تتخذ موقف المتفرج أو المراقب للأحداث.
لقد تبين خلال الأشهر التي انقضت من عمر الصراع أن نتنياهو وعصابته غير آبه بالتحذيرات الأميركية، لأنها غير جدية وما هي إلا للاستهلاك وذر الرماد في العيون لامتصاص ردود فعل الرأي العام الأمريكي والدولي، فلا زالت أميركا تزوده بأخطر أنواع الأسلحة، إضافة إلى أنه حصل شبه تفويض وشرعنة لأعماله بعد زيارته لحاضنته التاريخية ومظلته السياسية الولايات المتحدة الأميركية، حيث ألقى كلمته المليئة بالأكاذيب والخداع والتضليل.
لقد أسهب ذلك المجرم في الحديث عن التوراة، وما سماه حق اليهود بالأرض، وهو كلام سلفي لو صدر عن غيره لاتهم بالسلفية والإرهاب، فالواضح أن أعضاء الكونغرس الأميركي لا يهمهم إلا ما يجري في ولاياتهم، وليس ما يجري في غزة أو حتى ما يجري في أميركا ذاتها، ولا يعرفون تفاصيل ما يحدث فنراهم يصفقون لكل ما يقوله ويتحدث به عن معركة يخوضها نيابة عن أميركا في وجه البربرية، فثمة بلاهة حقيقية عند أغلب الحاضرين، وكان من الأفضل لو حضر 118 الذي غابوا وقاطعوه بدل ترك مقاعدهم خالية ملئت من ضيوف آخرين، إضافة إلى تهجمه على الأميركيين المتظاهرين، واتهامهم بالعمالة لإيران ومعاداتهم للسامية.
لقد ظهر الكونغرس وكأنه محفل شعبوي من خلال التصفيق الذي يتكرر في كل دقيقة إلى درجة أنه نبههم أن لا تصفقوا، ومع كل تلك الاستلابية ثمة صور مختلفة على المقلب الآخر، حيث قامت العديد من المظاهرات الاحتجاجية على زيارته تلك بما فيها أمام مبنى الكونغرس مع مقاطعة من 118 من أعضائه غالبيتهم من الحزب الديمقراطي، وهذا رقم كبير إلى درجة أنه قيل أن نتنياهو سناتور جمهوري يخاطب الحزب الجمهوري، إضافة إلى أن محطة “سي إن إن” كانت ضد الخطاب، حيث استضافت أشخاصاً وازنين أشاروا إلى أن ما قاله نتنياهو محض افتراء وكذب، علماً أن نتنياهو تحدث بتعال وغرور وكأنه يعرف مصلحة أميركا أكثر من بعض الأميركيين، معلناً أنه لابد من الانتصار، ولابد أن تكونوا أيها الأميركيون معنا لننتصر!
ثمة غطرسة نافرة ومتحدية، وعموماً كان خطابه دعاية لترامب خاصة وأنه إلتقاه وتحدث معه عما قدمه لـ “إسرائيل”، مبدياً نقده لنائبة الرئيس كاملا هاريس ما شكل حالة نفور من الحزب الديمقراطي تجاهه، والسؤال لماذا هذا التقرب من ترامب بالنسبة لنتنياهو أو تقرب ترامب واستمالته له؟
نعتقد أن ذلك يعود لدور منظمة “الايباك” في المسرح الأميركي وقدرتها على التشبيك مع قوى الضغط في الداخل، ولاسيما جمع التبرعات، إضافة إلى البعد اللاهوتي، فترامب متحالف مع الإنجيليين، علماً أنه ليس اليهود كلهم توابع “للايباك”، فثمة نخب مثقفة لا تؤيد ترامب في مواقفه بل تنتقده في موقفه من الإجهاض، والتعصب للبيض، إضافة إلى أن بعض اليهود يؤيدونه لأسباب اقتصادية لموقفه من الضرائب بوصفهم رجال أعمال كبار وممولين لحملة ترامب الرئاسية. إذن ثمة بعد اقتصادي وثقافي في الموقف من ترامب عند الجالية اليهودية، وليس كلها كتلة سياسية وبلوك سياسي واحد.