الحرب الأمريكية.. هل هي تجارية أم ضد السيادة الصينية؟
هيفاء علي
منذ إعلان إدارة ترامب الحرب التجارية ضد الصين، واصلت الولايات المتحدة وحلفاؤها في الاتحاد الأوروبي تكثيف سياسة الانفصال عن الاقتصاد الصيني، من خلال اعتماد العقوبات الاقتصادية والحواجز الجمركية وغير الجمركية، وحظر تصدير بعض المنتجات “الحسّاسة” إلى الصين. وإلى جانب هذا النبذ لقطاعات معيّنة من الاقتصاد الصيني، تكرّر وسائل الإعلام الغربية مراراً وتكرارا أن الاقتصاد الصيني في حالة سيئة، بل وتروّج أنه على وشك الانهيار. ووفقاً لهذه الطيور المشؤومة، فإن العصر الذهبي للنمو الاقتصادي الصيني أصبح عصراً مضى.
تقدّم واشنطن وأعوانها المؤشرات الاقتصادية للصين على أنها سلسلة من الكوارث الناجمة عن السياسات الاقتصادية المضللة التي تنتهجها الحكومة الصينية. ووفقاً لهذا السرد الغربي، فقد انخفض نمو الصين إلى النصف بسبب سوء تخصيص الموارد من قِبَل السلطات الصينية، وكان من الممكن أن تؤدي هذه الأخطاء في الحكم إلى تأثير الدومينو المعمّم، حيث تصبح ديون الأقاليم غير مستدامة، وينهار القطاع العقاري، وتجني الشركات أرباحاً أقل، وتتفجّر البطالة بين الشباب، وتتراجع أسعار المستهلكين، كما تنخفض الأجور والثقة. ليس هذا فحسب، بل يتمّ استحضار تقلبات أسواق الأسهم الصينية أيضاً لإضافة الدقيق إلى مطحنة السرد الغربي، وإذا أضيف إلى ذلك شيخوخة السكان، فمن المؤكد أنه سيكون هناك سبب للاعتقاد بأن الاقتصاد الصيني يمرّ بمرحلة نهائية.
وبطبيعة الحال، يكمن وراء هذه الصورة الكارثية هدف تقويض الثقة لجهة الطلب المحلي، والمستثمرين، وشركاء بكين، لأنه يجب عدم نسيان أن هذه الصورة تدّعي أنها تتجاهل سيل القيود التجارية المفروضة على الصين من قبل واشنطن والدول التابعة لها، والتي عقدت العزم على تقليل التجارة مع بكين، وفي بعض الحالات حظرها. وتكشف هذه المناورات أن الهدف الحقيقي للكتلة الغربية يتلخص في الحدّ من القدرة التنافسية الاقتصادية والتجارية للصين، وبالتالي تحريض شركائها الجنوبيين.
وفي الوقت الذي أصبح فيه تحول الطاقة هواية جديدة للكتلة الغربية، التي تعتبره وسيلة لإدامة هيمنتها من خلال فرض قواعد جديدة للتبادل، فليس من المستغرب أن يثير التقدّم المذهل الذي حقّقته الصين في هذا المجال غضب واشنطن. إن فرض رسوم جمركية مرتفعة بشكل خاص على السيارات الكهربائية الصينية -100% من قبل الولايات المتحدة، وما يصل إلى 45% من قبل الاتحاد الأوروبي- لا يترك مجالاً للشكّ في نوايا واشنطن، وهي تقويض الوضع المهيمن لشركات السيارات الصينية، واتهامها بممارسة منافسة غير عادلة من خلال الدعم والقدرة الإنتاجية الفائضة.
وبعد إدراكها للذريعة المضلّلة التي تقوم عليها هذه الحمائية المقنعة، قرّرت الصين عرض الأمر على منظمة التجارة العالمية، التي تنتهك قواعدها الخاصة بالمنافسة الحرة بشكل واضح. وكذا الأمر بالنسبة للاتهام الموجّه ضد الصين “باستخدام السخرة لسكان الأويغور في مقاطعة شينجيانغ”، والذي يلبي الهدف نفسه: استبعاد قطاعات كاملة من الصناعة الصينية من التجارة مع الولايات المتحدة، ويكفي الرجوع إلى قائمة المنتجات الصينية المدمجة فيما يسمّى “قانون منع العمل القسري للايغور” لإدراك البعد الجيو- سياسي والجغرافي الاقتصادي لهذه القوانين التي تبنّتها واشنطن.
ومن خلال استهداف المنتجات الإستراتيجية، مثل القطن والألمنيوم والمنتجات القائمة على السيليكا والبندورة أو المأكولات البحرية، فإن الهدف الواضح هو إزالة المنافس الذي يؤدّي موقعه المهيمن إلى التقليل من شأن واشنطن وحلفائها.
وهذا القانون الأميركي بشأن العمل القسري -الحمائية المتخفية في صورة دفاع عن حقوق الإنسان- يسمح أيضاً لواشنطن بمحاولة تشويه صورة الصين. وغنيّ عن القول إن الموارد الكبيرة التي استثمرتها بكين في خدمة التنمية الاقتصادية في شينجيانغ، والتي أثبتت أنها أفضل ترياق ضد الحركات الإرهابية والانفصالية الموجهة من الخارج، تحرم واشنطن من أداة ابتزاز هائلة ضد بكين.
وغنيّ عن القول أيضاً إنه في سياق استمرار المجازر الدامية التي تشهدها غزة ولبنان والتي ترتكبها “إسرائيل” برعاية وتشجيع من واشنطن وحلفائها الأوروبيين، فإن هذه الاتهامات الباطلة ضد الصين لا تتمتّع بأي قدر من المصداقية. كما أن التشخيص الغربي للحالة الصحية في الصين يتجاهل عمداً إعادة التوجيه الاقتصادي التي بدأتها بكين، ومثلها كمثل السياسات الاقتصادية الرئيسية التي انتهجتها الصين في الأعوام الثلاثين الماضية، فإن عمليات إعادة التوجيه هذه عبارة عن عمليات طويلة وعميقة من التحول، ويتمّ تعديلها باستمرار وفقاً للظروف الداخلية والخارجية.
هذه هي الطريقة التي يتعيّن على الجميع أن يفهم بها مفهوم التداول المزدوج، أو الأولوية المعطاة للاقتصاد الرقمي أو مسيرة الصين نحو السيادة التكنولوجية، دون نسيان الطبيعة الجيوسياسية العالمية لمبادرة الحزام والطريق، وقد حدّد “قرار” الجلسة المكتملة الثالثة للجنة المركزية العشرين للحزب الشيوعي بالتفصيل المجالات ذات الأولوية التي يجب أن تستند إليها السياسات الاقتصادية للبلاد.
الأمن القومي مقابل السيادة
يقال إن القيود الاقتصادية الغربية المفروضة على الصين مدفوعة في المقام الأول بمخاوف “الأمن القومي”، وستكون هذه المخاوف مثيرة للقلق بما يكفي لتبرير استبعاد بعض المنتجات الصينية أو حتى قطاعات معيّنة من التجارة مع واشنطن وبروكسل، في نظر الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
على سبيل المثال، سلّطت الولايات المتحدة الضوء باستمرار على الخطر المرتبط بالتكنولوجيات ذات الاستخدام المزدوج، مثل الجيل الخامس، أو أشباه الموصلات عالية التقنية، والتي يمكن استخدامها لكلّ من المدنيين والعسكريين. هذه هي الطريقة التي اضطرت بها العديد من دول الاتحاد الأوروبي، تحت ضغط من الولايات المتحدة، إلى التخلي عن شبكات الجيل الخامس الصينية.
وعلى نحو مماثل، وبأمر أميركي، اضطر منتجو أشباه الموصلات ذات التقنية العالية إلى حظر تصدير منتجاتهم إلى الصين، وهذه المخاوف الأميركية المرتبطة بـ”الأمن القومي” تطال أيضاً مساحة الموانئ البحرية في أربع قارات.
وعليه، فإن بناء وإدارة بكين للموانئ التجارية الإستراتيجية، مثل ميناء هامبانتوتا في سريلانكا، أو ميناء باتا في غينيا الاستوائية، أو ميناء تشانكاي في بيرو، تعتبره واشنطن بمثابة تهديد محتمل، حيث إن هذه الموانئ قادرة على خدمة الأغراض العسكرية في نهاية المطاف. ومؤخراً، فرضت واشنطن عقوبات على ست شركات صينية جديدة، متهمة إياها بمساعدة إيران في “الحصول على أسلحة الدمار الشامل”، ولكنها أيضاً تساهم في تحديث الجيش الصيني.
وفي الوقت عينه، تواصل الولايات المتحدة، المساس بسيادة الصين وسلامتها الإقليمية، منذ أن أبرمت مؤخراً عقد أسلحة جديد بقيمة ملياري دولار مع تايوان، من خلال انتهاكها للمرة الألف، روح البيانات المشتركة الثلاثة الموقعة مع بكين.
تكشف هذه التدابير القسرية الأحادية الجانب أن صعود الصين الاقتصادي، والذي يترتب عليه صعود عسكري، تعتبره الولايات المتحدة بمثابة تهديد لهيمنتها، لذلك يهدف اعتماد العقوبات الاقتصادية والتجارية ضد بكين إلى إعاقة سيادة الصين التكنولوجية، وإبقاء بكين تابعة للكتلة الغربية الخاضعة للسيطرة الأمريكية. وليس هناك شكّ في أن هذه الإجراءات القسرية تهدف أيضاً إلى ضمان حق واشنطن في الإشراف على العلاقات بين الصين والاتحاد الأوروبي، ومنع استقلال الاتحاد الأوروبي عن واشنطن.
وفي مواجهة هذا الواقع، يُطرح التساؤل التالي: ما هي الشرعية التي يمكن أن يتمتّع بها مفهوم “الأمن القومي”، الذي طرحته الولايات المتحدة وحلفاؤها، إذا كان ينكر على منافسيهم الجيوسياسيين الحق في حماية حدودهم وأراضيهم ومواردهم، أي اختيار مسار التنمية الخاص بهم، وتحسين حياة سكانهم؟ هذا السؤال يتجاوز الصين، فهو يُطرح أيضاً بالنسبة لروسيا وإيران وكوريا الديمقراطية وفنزويلا وزيمبابوي والعديد من الدول الأخرى التي تمّ دهس “أمنها القومي” بلا رحمة من قبل جوقة القوى العظمى.
وفي نهاية المطاف، لا بدّ من تسمية الأشياء بمسمياتها الحقيقيّة، فالحرب التجارية ضد الصين هي حرب ضد السيادة الصينية، ومن حقّ الصين المشروع الدفاع عن سيادتها وحدودها واقتصادها بكل ما أوتيت من قوة.