أنماط
عبد الكريم النّاعم
قُرع الباب، فتحه، كانا اثنين، أحدهما معرفة قديمة، أما الأخر فلا يذكر أنّه رآه. رحّب بهما، قال له المعرفة: “وجدتُ نفسي قريباً من بيتك، فقلت أزورك”.
قال: تفضلا. وفور جلوس الذي لا يعرفه، نظر إلى الجدران المُغطّاة بخزانات الكتب، وكأنه لم ير مكتبة من قبل، وبادره: “هل قرأتَ هذه الكتب كلّها”؟!! أجابه: “قرأتُ معظمها”، فبدا عليه الاستغراب وقال: “أنا إذا أردتُ أن تنيّمني فضع ورقة أمامي أروح في سابع نومة. أجابه: “النفوس قابليات، فما ينيمك يوقظ غيرك”، قاطعه صديقه وكأنّه يريد تغيير الحديث، فقال: “أترى؟ نحن في مدينة واحدة ولم أرك منذ سنوات، هل هي الأشغال أم بُعد الأحياء عن بعضها”؟ أجابه: “يقول المثل: “مصر لا تبعد على عاشقها”. مرّة أخرى، غيّر مَن يعرف الاهتمام وقال: “أنا أعرف حساسيتك، واهتماماتك، كيف تتعاطى مع مجريات الأحداث التي شغلت معظم العباد”؟
أجابه: “لأوّل مرّة أجد لغياب الكهرباء فائدة، فلو كانت متوفّرة لأمضيتُ معظم وقتي أتتبّع الأخبار والتعليقات”.
قال: “أنا أعرف ذلك، ولكنْ ألا يؤلمك ما تراه”؟
قال: “يؤلمني فحسب؟!! أنا أصبح ذراعاً مقطوعاً، أو بيتاً مقصوفاً، أو عائلة في العراء، لا تجد ماء، ولا غذاء، وليس ثمّة مَن يعين حتى من الأهل الأقربين.. بطرفة عين أتحوّل إلى أرض جرداء بعد أن كانت تعجّ بساكنيها، تحت سمع وبصر العالم كلّه، ولا سيّما ما يسمّى العالم الحرّ،، وهو في حقيقته عبْد ذليل، خانع، مدّ رقبته لوضع النّير الصهيوني عليها، وأدنى منه مرتبة في الخروج من الصفة الإنسانية الذين مشوا خلفه، ليس على غير هدى، بل هم يعرفون إلى أين يأخذهم هذا الطريق”..
قاطعه: “بتقديرك ما هي الجواذب التي تشدّ إليها مَن يُفترَض أن يترفّعوا عنها، ولو نظًريّاً؟!!
أجابه: “المصالح الشخصية الرخيصة، والانقياد إلى لذائذ عابرة، وأن يرضى الإنسان أن يكون عبداً لغريزته وأهوائه، من سلطة، ومال، وجاه، وهذا كلّه سوف تأتي لحظة يأخذه منه مَن يأخذه، شاء أم أبى، بل وسيكون أمام حاكم عادل.. يومها سيتساءل: “ما لِهذا الكتابِ لا يُغادرُ صَغيرَةً ولا كبيرةً إلاّ أحْصاها”؟!!
قاطعه الضيف الذي جاء معرفته بلهجة لا تخلو من البلاهة: “اسمح لي أن أسألك”؟
قال: “اسألْ”.
قال: “إذا كنتَ تحمل كل هذه المعاناة، فلمَ لا تُلْقِ الحِمْلَ عن ظهرك”؟!! لا تفتح تلفزيون، ولا تتابع الأحداث، ولا تسمح لأحد أن يطرحها عليك، هذا أنا أمامك، أبتعد عن كلّ ما يؤذيني، وأعرف حدّي، لا أستطيع فعل شيء، فلماذا أعذّب نفسي، واقهرها”؟!!
نظر إليه نظرة ذات مغزى وقال: “فعلاً، سوف آخذ بنصيحتك، لماذا لم نتشرف بزيارتك قبل الآن”؟ وحوّل نظره نحو الذي أتى به، وكأنّه يقول له مِن أين أتيت بهذا؟!! واستدرك في داخله أنّ الذي رافقه ليس أكثر عمقاً، ولا أرهف حساسية، فقال له مغيّرا الحديث: “الأولاد أين صاروا”؟
أجابه: “واحد مقيم في بريطانيا منذ حوالي عشر سنوات، وهو موفّق بعمله، ولا ينسانا، فهو بين مدّة وأخرى يُرسل لنا ما يجعلنا غير محتاجين، فنحن والحمد لله، لا نشتهي شيئاً إلاّ اشتريناه، والأصغر منه سافر إلى أمريكا، ويُقيم هناك، وتزوّج من أمريكية، ولا يقصّر معنا، والبنت الصغيرة تزوّجت من رجل خليجي، صحيح أنّه يكبرها سنّاً ولكنه مليء بالمال.
حين قاما ليودّعاه، قال لمعرفته: “أنا أعرف أنّ ذاكرتك ممتازة، ما هذا البيت الشعري الذي فيه إنّ الطيّور تبَع؟ قال منتفخاً: “إنّ الطيور على أشكالها تقع”..
aaalnaem@gmail.com