روح و ريحان.. غواية دمشق وعبقها
البعث الأسبوعية – ثقافة – يحيى زيدو:
دمشق العتيقة في التاريخ.. مَن مِنَّا لم يقع في غوايتها وهو يمشي في شوارعها وحاراتها وأزقتها متأملاً معالمها؛ أبوابها والسور، الجوامع والكنائس والتكايا والزوايا والحمامات. أو عندما يتجول في أسواقها متسوقاً ومتلذذا بأطباق مطاعمها، أو مزجياً الوقت في مقاهيها؟!
ربما كانت غواية دمشق، التي لم ينجُ منها أحد، هي التي أغرت الإعلامي والأديب بديع صنيج للقيام بنزهات أراد فيها اكتشاف روح دمشق وعبقها كما لو أنه يراها للمرة الأولى، فجاء كتابه (روح وريحان-نزهات دمشقية) كما لو أنه رجْعُ عطر الشام إليها، فنخالُ معه أننا نرى الشام كما لم نرها من قبل، ونحن الذين قضينا الشطر الأكبر من أعمارنا فيها.
من الشارع المستقيم، الذي ذكره الإنجيل، يأخذنا الكاتب في نزهته ليطل على ما يزيد عن “1220 سنة من الحكايا والسيَر والآثار والتاريخ المديد”. ومن باب الجابية حتى باب شرقي وصولاً إلى صيدنايا وبلودان مروراً بباب توما والمرجة والمهاجرين و”شارع شيكاغو” الذي قد لا يعرفه كثيرون وإن كانوا قد مروا به، يتقصى بديع صنيح أثر العبق وجماليات المكان، ناثراً المعلومات التاريخية المستقاة من مراجع موثقة، يضيف إليها ما فاضت به ذواكر المعمرين في أحياء دمشق من حكايات أو مفارقات طريفة.
تتعدد مستويات “الرؤية” في الكتاب بقدر ما تتنوع أشكال “الرؤيا” في رصد تفاصيل دمشق، حيناً يراها بعين الباحث الأثري وهو ينقب في تاريخ مقبرة “باب صغير”؛ المقبرة التي رأى أنها “برزخ مهم لتجويد الحياة”. وربما كان كثيرون لايعلمون مَن هم سكان تلك المقبرة التي استوى فيها الجميع رغم كل الاختلاف والتناقض وربما العداء في الحياة الدنيا، ففيها “يجتمع معاوية بن أبي سفيان مع شكري القوتلي، ويزيد بن معاوية مع سكينة بنت الحسين وإبان حفيد الرسول، ورفات بلال الحبشي مع نزار قباني..”، وفيها يرقد الثائر حسن الخراط إلى جانب تاج الدين الحسني، وفخري البارودي إلى جانب ابن عساكر مؤرخ دمشق. ولا يغفل الكاتب سؤال المتخصصين عن أشكال القبور ودلالة العمارة و اختلافها بين فترة تاريخية و أخرى.
تارةً ترى الكاتب مخرجاً سينمائياً يلتقط تفاصيل المشهد الكلي بخلفية تاريخية كما عند الحديث عن حي المهاجرين الدمشقي “أكثر الأحياء الدمشقية درامية”، ومرة تراه عاشقاً عابثاً وفناناً تشكيلياً في باب توما مقتبساً قول صديق إيطالي يقيم في المكان: “لم أمتلئ بعشق منطقة من قبل كما يملؤني حبي لباب توما، بكل مافيها..”، لينتهي به المطاف عند خمارة “أبي جورج” التي لم تنجح كل البارات الحديثة في سلبها ألقها الذي مازالت تتمتع به إلى اليوم.
وعن كنيسة حنانيا تراه يتحدث كراهب يقتفي أثر بولس الرسول، ولا يتوقف حتى يكمل نذوره في دير سيدة صيدنايا باحثاً عن المعجزات التي يتناقلها الناس مشافهة إلى اليوم.
أما في حي الميدان فهو مؤرخ يروي تاريخ الحي وحاراته ومحلاته والمهن التي مارسها ويمارسها سكانه، والتبدلات التي طرأت عليه، واعداً نفسه بما لذَّ وطاب من أطعمة وحلويات الميدان الشهيرة.
وفي المرجة هو سائح يرى بعين الدهشة تفاصيل المكان وعلاقته بالناس، مع خلفية تاريخية، بالإضافة إلى ذاكرة المعمرين الذين لم يتبدل حبهم لها، ليأخذنا بعدها إلى باب سريجة بعيون بائع العطور وبائع اللوحات الفنية في آن.
ويتوقف كصوفي في مقام “ابن عربي” فيرصد الجانب الروحي للمكان وتأثر الأشخاص بهذا المتصوف الكبير، ولا يكتفي بذلك بل يرصد بعين ثاقبة المظاهر الاجتماعية التي نشأت داخل وحول المكان، وحياة الناس في حي الشيخ محي الدين الذي اكتسب اسمه وشهرته من وجود المقام فيه.
أما مقاهي دمشق فقد أفرد لها مساحة واسعة، متوقفاً عند مقاهٍ بعينها كان لها دور في تاريخ دمشق وسورية. ومقاهٍ أخرى كان لها دور اجتماعي غيَّر حياة الدمشقيين وأثرت فيهم مثل مقهى “الهافانا” و”البرازيل” و”النوفرة” وغيرها من المقاهي التي اكتسبت سمعة جيدة بعد تحويل الكثير من البيوت الدمشقية القديمة إلى أماكن يلتقي فيها الناس ويزجون أوقاتهم بين جدرانها التي تحمل عبق الماضي، منوهاً إلى أن دمشق سبقت أوروبا بمئة عام في افتتاح المقاهي.
لا تنتهي الحكايات في (روح وريحان) رغم عدد الصفحات القليل نسبياً والذي يتجاوز المئة بقليل، لكن لا بد أن نقوم بتعليق القراءة كما ينصح الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار. تعليق القراءة يعني أن نصغي لجماليات المكان الذي نعيش فيه.. فحين نقرأ عن الحجر نتذكر حجرنا في البيت، الأماكن التي عشنا بها، تلك التي جالت أو تجول بخاطرنا، الأماكن الأليفة والحميمة، ثم نمد بصرنا إلى قراءة ذواتنا كي نعيد ترتيب أولويات الجمال داخلنا. وبقدر ما يكون النوستالوجي حاضراً يصير الخيال متحفزاً أكثر لخلق الجميل في كل لحظة.
“روح و ريحان..” هو أكثر من نزهات في دمشق أو تعريف بها، بل هو رسائل حب لمدينة لا يشعر الوافد إليها بالغربة لأن روح الشام تسكنه، فيعيش ويعتقد بلا شك أنه دمشقي المولد لا شامي الهوى فحسب.