مجلة البعث الأسبوعية

الولادة المسرحية للمسرح الحلبي

البعث الأسبوعية – ثقافة – فيصل خرتش:

 

إذا كانت ولادة المسرح اللبناني على يد الفنان “مارون النقاش” ( 1817 ـ 1854) بمسرحية البخيل، لموليير والتي عرضها في باحة داره في بيروت (1833 ـ 1902) بمسرحية ناكر الجميل والتي عرضها في بيت جده، فإن ولادة المسرح الحلبي كانت على يد الفنان يوسف نعمة الله جد (1842 ـ 1903) بمسرحية “بريجيت” وقد عرضها على مسرح المدرسة المارونية بحلب عام 1872 والتي جارى بها آنذاك المسرحيين الرائدين والأخوين “ميخائيل ومارون النقاش” بالحكم والمواعظ وأدب الروايات، وقد كان تمثيل هذه المسرحية يوماَ مشهوداَ في تاريخ المدينة، وفاتحة نهضة أدبية في ربوعها، وأثارت الحماس في صدور الكثيرين من النشء المختار، فأخذوا ينافسون المؤلف ويقتدون بأدبه اليانع وعلمه الوافر.

حضر تمثيل مسرحية “بريجيت” النخبة من أعيان المدينة ووجهائها وأدبائها يتصدرهم والي حلب “عثمان باشا” وكبار الموظفين، وقد أبدوا إعجابهم بالمؤلف وأثنوا على براعته، كما تبارى عدد من الشعراء في تقريظه بقصائد عديدة، وقد بلغ استحسان المشاهدين للمسرحية وللممثلين أنهم أصروا على إعادة تمثيلها، فزاد الإقبال على مشاهدتها والإعجاب بفضل مؤلفها، وقد استدعاه “عثمان باشا” وأسند إليه مهمة ترجمان ولاية حلب، وهو منصب دقيق وخطير يستلزم حنكة ولباقة، فضلاَ عن المعرفة والثقافة، وقد تقلده عن استحقاق وجدارة، لما اتصف به من آداب صحيحة، وأخلاق عالية، ووفاه حقه من النزاهة والجد والإخلاص فكافأته حكومة الباب العالي بأن أنعمت عليه بالرتبة الثالثة، وقد شغل هذا المنصب مدة أربع وعشرين سنة ونيف، تعاقب عليه فيها سبعة عشر والياَ كان موضع ثقتهم واحترامهم جميعاَ.

ولد الفنان يوسف نعمة الله جد في حي الكتاب بحلب في شباط عام 1842 ثم انتقل إلى حي العزيزية، متزوَج وله بنتان: بريجيت وبرنديت، وقد درس في المكتب الماروني بحلب، فأكب على تعلَم مبادئ اللغة العربية والتركية، فأتقنها قراءة وحفظاَ مع أصول علم الحساب، ولما كان والده موسراَ ومحباَ للعلم، فقد أرسله إلى مدرسة “عينطورا” في لبنان، وفيها أشهر معاهد الشرق الثقافية في ذلك الزمان، فأخذ التلميذ النجيب عن أساتذته المحامد والمحاسن وتخرَج في اللغات: العربية والتركية والإنكليزية والإيطالية، فأتقنها جميعها، وأصبح معروفاَ بين أقرانه بإجادة عدَة لغات، وبعد عودته إلى موطنه حلب، عمل مع والده في التجارة ومختلف الأعمال، وكان شغوفاَ بالعلم والمعارف والفنون والآداب. توفي في العاشر من أيلول سنة 1903 ومشى في مأتمه كبار رجال الولاية والوجهاء، وتم تكريمه في مهرجان حلب المسرحي الثاني عام 1998 وتسلم درع التكريم حفيده المهندس جوزيف جد، كما سمي شارع باسمه في منطقة السليمانية.

أجاد الممثلون إلقاء وإيماء، وقد وصل إلينا أسماء بعضهم نذكرهم فيما يلي:

فقد مثل دور يفتاح الملك ألبير جد، شقيق المؤلف، ولعب دور الملكة فيكتور يننقولاكي دياب، وقام بدور أدوار حبيب يوسف أخرس، ولعب دور بريجيت جرجي ثابت، ومثل دور أميلي حبيب دياب، وقام بدور فيكتور يوسف دياب، ولعب دور القائد أسيت رزق الله بطق، أما دور روبرت فقد مثله فرج الله حكيم، بقي دور هنريكوس، فقد قام بتمثيله البلبل الغريد صاحب الصوت الفريد باسيل حجار، وبقي ممثلون لم تصلنا أسماؤهم، والجدير بالذكر أن زينة المسرح والملابس والتمثيل كلفت كلفاَ باهظة تجشمها المؤلف تعشقاَ منه لهذا الفن الرائع.

موضوع المأساة

كانت فيكتورين فتاة مؤمنة رائعة الجمال زكية الفؤاد نبيلة الأخلاق، أرغمها والدها على الزواج من يفتاح أحد الملوك الوثنيين، وقد رضيت بذلك على كره منها بهذا الزواج، وتمكنت بفضلها ونادر فضائلها أن تدخل حبَ رجلها في قلبها وأن تعيش وإياه في صفاء ووئام، فكان ثمرة هذا الحبَ الصادق ولدين، هما: بريجيت وأدوار، فقرت بهما مدَة عينا الزوجين السعيدين ثمَ ما لبث الزمان أن تنكَرلهما، فدارت رحى نيران الحروب مما اضطر يفتاح إلى أن يغادر عاصمة ملكه على رأس جيش يقوده بنفسه لإخضاع القبائل والشعوبالثائرة في أطراف مملكة بعيدة الأطراف، وقد قضى سنين بعيداَ عن زوجته وولديه، منهمكاَ في المعارك والحروب، وكان الحظ في هذه السنوات يبسم له تارة ويتجهم تارة أخرى، وكانت زوجته على أحر من الجمر، فأخذت ابنها أدوار، وقد أصبح شاباَ، الشفقة عليها، فسار في أسطول ضخمٍ لنجدة أبيه، ولكنه لم يكد يقضي عدة ليال في البحار حتى هبت عليه عاصفة هوجاءأغرقت سفنه، ولم يسلم أحد، إلا هو وقائده الأمين أسيت.

بعد أن قذفتهما الأمواج إلى شواطئ الحبشة، فقبلهما ملكها وأعجب بشهامة أدوار ونبل فؤاده ومضاء عزيمته، وتوسم فيه حسن الطالع وحلو الانتصار، فجهزه بجيش ليواصل حربه في سبيل نجدة أبيه، وكان والده في هذه الأثناء قد نذر أنه إذا عاد إلى وطنه ظافراَ ضحَى للآلهة بأول شخص يقع عليه بصره في بلاطه، ولما انتصر وعاد إلى ملكه كانت، لسوء الطالع، ابنته بريجيت أوَل شخص يقع عليه بصره، ولما أراد أن يضحي بها إيفاء لنذره للآلهة وانقياداَ لنصيحة رئيس كهنة أصنامه، تصدت له زوجته فيكتورين، وحالت دون تنفيذ نذره الباطل وقد نجحت بفضل ذكائها في إرجاعه عن عزمه بل تمكنت من استمالته إلى عبادة الحق.

يتخلَل المأساة حوادث مثيرة ألبسها المؤلف ثوباَ رائعاَ جذاباً، مما كان لتمثيلها النجاح وله المزيد من الفخر والثناء.

الكتابة المسرحية والريادة الأولى

يؤكد نصَ مسرحية “بريجيت” ليوسف نعمة الله جد، أنه ينتمي إلى النصوص المسرحية من جهة وإلى البدايات الأولى المبكرة للكتابة المسرحية من جهة أخرى، وأثار حماسة المشاهدين، ومهما يكن فالنص يغلب عليه أن يكون مسرحيةَ تاريخية رائدة في زمنها، وهي تضع نفسها في صميم الريادة الزمنية لعدد من المسرحيات الأخرى، فالمسرحية تعلن انتسابها إلى البدايات الأولى، وهي تشي بأن الإبداع كان متنوعاَ وشاملاَ لعدد غير قليل من مناحي الحياة والفكر والأدب، فالمادة التاريخية غدت قناعاَ فنياَ للتعبير به عن تجربة معاصرة، وفكرة جديدة ترتبط بالحرية والظلم، وتنبه الفكر الإنساني إلى فكرة الإرادة البشرية في بحثها المستمر عن البعد الوجودي الذي يدخل في صميم التغيير الطوعي للإنسان، فالكاتب كان يبحث عن تجربة حياتية تتفاعل مع البيئة، وقد رسم بدقة البيئة المكانية التي دارت فيها الأحداث وربطها بأزمنة محددة مكنته من تقديم رؤيته إلى المشاهد، وقد نجح في إقامة المحاورة المشتركة بين الماضي والحاضر، وبين الأساطير والواقع الاجتماعي الجديد، وكلَ ذلك يستدعي من المتلقي استمرار البحث والتقصي عن الصورة الصادقة لروح الإبداع معلناَ انتصاره على لحظات اليباس.

هذا نصَ مسرحي يتألف من خمسة فصول في كلَ فصل عدد من المشاهد، هو ينتمي إلى مرحلة التأسيس للمسرح العربي، ويعبر عن نبض الحركة الفنية المسرحية التي أخذت تشق طريقها إلى المشهد الثقافي والاجتماعي في حلب.