مجلة البعث الأسبوعية

السياب ورحلة الغربة والشعر

سلوى عباس

ليس من أحد يقرأ الشعر الحر أو ما يسمى بشعر الحداثة إلا ويتذكر الشاعر بدر شاكر السياب كرائد من رواد مدرسة الشعر العربي الجديد في العراق إلى جانب نازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي وآخرين حيث أعلنوا تمردهم على الشعر التقليدي في مواجهة معلنة لأكبر شعراء القصيدة التقليدية.

كانت حياة السياب قصيرة امتدت من عام ١٩٢٦ حتى عام ١٩٦٤ سجل خلالها تاريخاً شعرياً ينضح بالمعاناة الإنسانية، وقد كان  شعره يتميز بلغة مميزة وأسلوباً خاصاً يختلف عن الأساليب الشعرية الأخرى، كما كان له تميزه بين شعراء جيله، إذ عالج في شعره قضايا حياتية معاشة مزج فيها بين الهم اليومي والآني وبين الهم الزمني الذي يمتد لأجل طويل، فانطلق من خصوصية الفكرة وأبعادها إلى الأفكار العامة حيث بلورها وفسرها، وكان انطلاقه من الهم الذاتي الذي يحمل همومه ومعاناته إلى هموم الحياة العامة، وقد طوّر أدواته الشعرية بملامسته لواقعية الحياة فعمل على تعرية المجتمع وكشف جوانب السلبية والفساد فيه من خلال شعره.

ولد الشاعر السياب في ٢٤ كانون الأول من عام ١٩٢٦ في جيكور، تلك القرية الصغيرة التي احتضنت طفولته وحزنه وفرحه وكل تفاصيل حياته، وكانت الشاهد الأول على غربته النفسية حيث داهمه الموت واختطف منه والدته وبعدها زواج والده، وقد أثرت هاتان الحادثتان في نفسه كثيراً، وبعد وفاة أمه انتقل السياب إلى كنف جدته التي رعته وربته وحلت في ذهنه وذاكرته محل والدته فكان موتها أيضاً صدمة عنيفة له.

جمع السياب في شعره وثقافته براءة الطفولة وعمق الرجل المتفهم لمشاكل المجتمع العربي والعراقي وهمومه، وكتب عن كل ذلك بزخم كبير وبتطور شاعري عميق وملفت لم يثنه عنه المرض ولا غربة ولا ألم، فكتب عن بلاده وعن النهر وغابات النخيل وأعواد القصب والطين، وعن الصراخ والصمت بصورة واضحة ودقيقة.

أما الغربة الحقيقية التي سافر فيها السياب دون رجوع كانت غربة المرض، تلك المرحلة الفقيرة والمحزنة، إذ واجه قدره وأصبح يدافع عن مجرد أن يبقى، فقال مخاطباً الموت متحدياً سطوته بإصرار على المقاومة والتمسك بالحياة:

“الموت لم يعد رجولة ولا حباً ولا فداء، بل أصبح عبئاً لايرد ولا يعالج ولا يقتنع من الغنيمة بالإياب”.

لقد أصبح ينظر إلى كل شيء من خلال هذا الشبح الجاثم على روحه يعيش تحت سطوة الموت المقيتة، فمن يقرأ شعره في هذه المرحلة يدرك كيف أصبحت الحياة في نظره موتاً فقط، فقد تضاءل كل شيء في عينيه إلا شبح الموت الذي كان  يكبر ويكبر والألم ينهش جسمه، فيطلق من أعماقه احتجاجاً عنيفاً ومخنوقاً مستنكراً أن تكون هذه نهايته.

إن مواجهة السياب للموت لا تحمل أي مضمون اجتماعي، لكنه يوّد معانقته لأن فيه الخلاص، فهو يكرهه لأنه خطف أمه وجدته والكثير من أحبته ولا يجد أي معنى لبقائه على هذه الحالة بعد أن انهارت كل عوالمه، فقد حرمته مرحلته الأخيرة من كل شيء حتى قدرته على المشي، فأصبح الشعر رفيقه الوحيد، لذلك كان شعر هذه المرحلة شعرا ذاتيا انفعاليا لا يدل على قيمة كبرى، كما في المراحل الأخرى باستثناء بعض القصائد، إذ أقعده المرض عن المضي في متابعة تجربته الشعرية، ولعل هذه الأبيات تختصر غربة الشاعر بكل أبعادها ومعانيها:

الريح تلهث بالهجيرة، كالجثام على الأصيل/ وعلى القلوع تظل تطوى أو تنشّر للرحيل ، وعلى الرمال، على الخليج/ جلس الغريب يسرّح البصر المحير في الخليج/ بين القرى المتهيبات خطاي والمدن الغريبة/ غنيت تربتك الحبيبة وحملتها/ فأنا المسيح يجر في المنفى صليبه.

غادر السياب الحياة قبل أن يكمل مشواره ويقول كل مالديه، وللمفارقة أن وفاته كانت في نفس يوم ميلاده في ٢٤ كانون الأول من عام ١٩٦٤ لكن رغم قصر تجربته الشعرية إلا أنه بقي رمزاً شعرياً مهماً على الساحة الشعرية العراقية والعربية.