شاعر سكنت القصيدة روحه
سلوى عباس
إسماعيل عامود رائد من رواد قصيدة النثر، وعلى الرغم من أنه كتب القصيدة التقليدية ذات الشطرين وقصيدة التفعيلة إلا أنه أبدع وأجاد في قصيدة النثر فجاءت قصائده عفوية حيث يتدفق اللاوعي الذي تتخلله الصحوات تاركاً لنفسه حرية التسكع في مطر الكلمات، وقد تعرف إليه القراء بداية عبر قصائده المنشورة في مجلة “الصباح” الأدبية الأسبوعية التي كانت تصدر في دمشق أوائل عام 1946، ومن ثم نشر قصائده في صحف سورية ولبنانية.
يعتبر قصيدته “شهادة” بأن القصيدة هي الحياة التي سكنت روحه وجسده، وقد تعرفت إليه في عام 1983 عندما قمنا أنا ومجموعة من الأصدقاء بزيارة إلى مجلة الثقافة التي كان يصدرها الأديب الراحل مدحة عكاش وكان الشاعر إسماعيل عامود مشرفاً عليها، وقد عُرف عنه تبنيه لكل قلم موهوب وشاعري إذ كان يعتبره ككنز أدبي ومعرفي، فهو قارئ متميز ينحاز للجمال، ويملك ذائقة أدبية تحترم كل ما هو جميل، لكنه بالمقابل حاد وقاس مع كل متطفل على الأدب والفكر، وبعدها تواصلت لقاءاتنا معه في اتحاد الكتاب العرب حيث كان أمين سر جمعية الشعر.
ولد الشاعر إسماعيل عامود في 26 شباط من عام 1928 وتوفي في 3 شباط عام 2015 وبعد تقاعده من اتحاد الكتاب في عام 1995 أكمل حياته في مدينته سلمية وكان بيته قبلة للزوار وطالبي المعرفة الأدبية، إذ كان لديه أرشيفاً للأدب العربي في مراحله التاريخية ينهل منه طلاب الثقافة والمعرفة.
إن اختناق الروح تحت ضغط التقاليد دفعت بالشاعر عامود لاستحضار خياله المجنح الواسع لابتكار جمله ورسم أحداثها بشفافية تغني المضمون بفيض غير محدود من الإيحاءات في صور بلاغية، وتوسيع الإطار الرمزي في شعره أعطاه قدرة كبيرة على تنويع جزئيات صوره وتلوينها من خلال مزج ألوانها ليفاجئ القارئ بلحظة من لحظات تلوث العقل وفقدان السيطرة عليه.
في لحظات المحنة يتداخل الماضي بالحاضر والمستقبل، ويأتي الشعر بوحاً من حلم يسكن القلب، ويتحول الحلم إلى أنواع من التمتمات توقظ ما بدأ يغفو فينا، إذ تمكن الشاعر عامود من خلال قوة التعبير عن العاطفة المتقدة والخيال المتوهج أن يطوّر تعابيره المعاشة باستمرار ليثير فينا النبض الإنساني دائماً، ولاشك بأن مساحة الفسيفساء التي شكلها تخضع لهندسة ذهنية توّقد عواطفها وحيوية تعابيرها أمدته بما استجابت له شاعريته إلى غايات عميقة الغور تضرب جذورها في وجود الشخصية ذاته.
أبناء الريف تلك الشريحة من الناس حملت طيبتها كتعويذة ثمينة متوارثة وهي تهاجر مجبرة نحو رغيف الخبز، حيث كان القحط الذي عانوا منه كارثة لم يتمكنوا من رد ويلاتها بما فيهم شاعرنا، وبقيت ذكريات الأرض تتغلغل في أعماقه كعلّة استشرت، وقد تمكن الشاعر هنا من إحداث شرارة داخلية في عمق الذات سمحت له بإطلاق نوع من فائض القدرة يبحث عن متنفس، شرارة تعلن بأنه موجود على الساحة الشعرية والأدبية وفاعل فيها.
لا ننكر على الشاعر براعته في نقل الماضي إلى جيل الحاضر وقد عاصرهما، وتمكن من المزج بين مقومات الحدث إذ ترك للصورة مهمة توضيح أعماق مشاعره بأبعادها، وفي ذات الوقت الذي ترك لنا فيه حرية فرز ألوان لوحاته نلمس ذلك الاتزان العاطفي لديه، والذي لم يستطع تغليف مراميه، فأطلق له العنان ليطفو ويهوم بحرية.
أيضاً السخرية والمديح المفرط مترادفان تحيط بهما الريبة، والشاعر إسماعيل عامود يقفز فوق الواقع إلى التخيلي الساخر في محاولة لبناء موقف كوميدي يقطف منه صوراً ساخرة يزين بها أناساً لهم علاقة ما بنفسه، فقد نقل إلينا عبر أشعاره صورة من حياته في وحشته وانطوائه على نفسه بوصف يثير المشاعر والشجون إلى حد بعيد، وكان متصالحاً مع نفسه وواقعه يصل لدرجة التمزق بين الانتماء الأصيل وبين أشياء أخرى ترفض مثل هذا الانتماء، فلم يخدعه بريق الأشياء الخادع والكاذب، وهكذا تفرز المأساة الأصالة لديه ووجدناه من خلال أعماله الكاملة ينكر أن تمس عظمة الإنسان مهما كانت الحجج، مؤكداً على قدسية الحياة في توهجها الإنساني بحيث لا يتاح لانبثاق الروح إلا أن تكون بنت اللحظة.