مبدع الزمن الموحش في ملكوته الأجمل
سلوى عباس
في بداية المرحلة الثانوية كنت أذهب إلى المركز الثقافي في مدينتي الذي كان عبارة عن منزل سكني يغص بأنواع متنوعة من الكتب، وكان يديره شخص تمثل الثقافة بالنسبة له رسالة وسلوكاً يعتمدها في تنفيذ مهمته في إدارة المركز الذي كان داراً حقيقياً للثقافة، وقد لفتت عناوين الكتب التي كنت أختارها انتباه مدير المركز إذ رآها أكبر من استيعابي لها، فكان يقترح لي كتباً تتناسب مع عمري ويسمح لي أن آخذها معي إلى المنزل لأقرأها بهدوء ومن ثم كان يناقشني بها ليقف على حقيقة فهمي لما أقرأ، وكان يوضح لي بعض الأفكار التي تُشكل عليّ ليصوّب أفكاري، وكانت رواية “الزمن الموحش” للكاتب حيدر حيدر من الكتب التي رشحها لي فقرأتها وبعد أن أنهيتها عدت وتناقشنا بها وبالأفكار التي لم أفهمها، وقد أعدت قراءتها في وقت لاحق فكانت قراءة مختلفة حتى عن الأفكار التي شرحها لي مدير المركز.
فيما بعد تعرفت على أدب حيدر حيدر، لكن ظلت رواية “الزمن الموحش” تعني لي الكثير، ربما لأنها ساهمت في تشكيل ذائقتي الثقافية، وقد تحدث الأديب حيدر عن هذه الرواية بالقول: “إنها محاولة لرصد الحالة والإيقاعات الاستلابية، الهجينة بين الريف والمدينة، اقتراب من دهشة الريفي وهو يصطدم بالمدينة ومن ثم محاولة التأقلم في هذا المناخ الجديد، ومقابل هذا هناك المناخ الثقافي السياسي الطلق والحيوي في المدينة على عكس الريف المغلق والفقير سياسياً وثقافياً”.
إن فهم أبعاد الرواية المتشائمة بل والموغلة في التشاؤم يتطلب إلماماً وإحاطة بالظروف التاريخية التي كتبت فيها، ما يفسر كمية الوجع التي تكاد تصرخ بها كل صفحة من صفحات الرواية السوداوية.
الروائي حيدر حيدر، كما يعرّف نفسه، هو “كاتب اليأس والقسوة، والنّهار المهزوم بالظّلمة”، لكنه صاحب مشروع روائي أدبي واضح المعالم، منذ روايته الشهيرة “وليمة لأعشاب البحر” حتى آخر رواية صدرت له مروراً بأعماله كروايات “مرايا النار”، “الفهد”، “شموس الفجر” وغيرها الكثير.
رغم كل التشاؤم الذي يدلل عالمنا كان يرى أن هناك أمل يتجدد دائماً رغم انكسار أحلامنا. وهذا الأمل يتراءى في مجال الثقافة وسط هذا الخراب العميم الذي يخيم على الحياة العربية، فنحن في الزمن الموحش والصعب منذ زمن طويل، والمواجهة مع هذا الصمت والمضائق الحادة هي امتحان الاستمرار في الوجود، معتمداً مقولة: “الضربة التي تصيب الظهر ولا تكسره تعطيه القوة”.
غادر حيدر قريته حصين البحر إلى طرطوس فحلب فدمشق، ومن دمشق إلى عنّابة في الجزائر حيث عمل مدرساً للغة العربية، ومن الجزائر إلى لبنان حيث التحق بالمقاومة الفلسطينيّة وإعلامها، ومن لبنان إلى قبرص وبعدها عاد إلى حصين البحر حيث تكتمل دائرة حياته، وعن عودته إلى قريته وعزلته التي اختارها بإرادته يقول: الهجرات التي حملتني عبر فيافيها وصحارها ومدنها وبحارها زودتني بتجربةٍ لولاها لكنت نصف كاتب، ولولا الجزائر ما كانت “وليمة لأعشاب البحر” ولا “الفيضان”، ولولا دمشق لما كانت “الزمن الموحش”، ولولا لبنان لما كانت “الوعول” و”التموّجات” و”حقل أرجوان”، وفي عام 1985، وبعد حياة حافلة على كل الصعد، عاد حيدر حيدر إلى مسقط رأسه، في محاولة لترميم خرابه الداخلي كما كان يحدث زواره فيقول: “الطبيعة هي أُمّي، وانتمائي لها يعود ربما إلى نشأتي الريفية، إلى الأرض التي خبرتُ شِعابها، والبحر الذي آنستُ كائناته وغضب أمواجه. أنا صياد بطبيعتي، عشتُ حياتي في الصيد البري والبحري، علاقتي بالطبيعة علاقة عضوية، ومع البحر تحديداً، فبعد عودتي من المنفى عشتُ عشرين عاماً أصيد سمكاً في جزيرة النمل قبالة شاطئ طرطوس، والطبيعة جزء من حياتي مثلها مثل الكتابة والقراءة. فمثلما لا أستطيع النوم قبل ساعتين من القراءة، أيضاً لا أستطيع العيش من دون صيد، بعكس علاقتي مع المدن التي تسودها الضوضاء والعلاقات الإنسانية المزيفة، إنني شخص عفوي لا أحب الأشياء المصطنعة المعقدة”.
تابع حيدر حيدر عزلته يكتب بصمت مكتفياً بمتعة الكتابة، ولأنّ الزمن هو الناقد الأكثر إنصافاً سيبقى أدبه فتنة للقارئ، وبعد حياة صاخبة ومؤثّرة نصفها ترحال ونصفها اعتزال غادر حيدر حيدر الزمن الموحش تاركاً كتبه الكثيرة المتنوعة بين قصص وروايات ومقالات وشهادات، إضافة إلى لوحة صغيرة ضمنها وصيته الأخيرة كتب فيها تعريفاً لنفسه وطلب أن توضع على شاهدة قبره تقول مفرداتها: “متواضعٌ كالرمل، صاخبٌ كالبحر، عالٍ كالسّماء، حرٌّ كالرّيح”.