مجلة البعث الأسبوعية

حيدر حيدر متواضعٌ كالرّمل.. صاخبٌ كالبحر عالٍ كالسّماء.. حرٌّ كالرّيح

أمينة عباس

“الفهد غادرَنا إلى ملكوته” بهذه الكلمات نعى د.مجد حيدر ابن الأديب حيدر حيدر خبر رحيله، أما هو فكان قد أوصى أن تكون اللوحة التي اعتاد على وجودها في مكتبته شاهدة على قبره، وقد دوَّن فيها ما يلخص صفاته “متواضعٌ كالرّمل، صاخبٌ كالبحر، عالٍ كالسّماء، حرٌّ كالرّيح” كما كان يعرّف نفسه بكاتب اليأس والقسوة والنّهار المهزوم بالظّلمة، وأنه كاتب غير متفائل، فكانت كتابته ومواقفه العمليّة في الحياة سلاحه في المواجهة.

قارئ أولاً

لم يفكر حيدر حيدر أن يكون كاتباً في يوم من الأيام رغبة منه في أن يكون قارئاً فقط وعارفاً بأسرار الحياة والمجتمع والبشر لتكون رواية “آلام فرتر” لغوته أول كتاب يقرأه، وسرعان ما امتدت يده إلى الأدب الكلاسيكي والواقعي والاجتماعي المنتشر في سورية ولبنان ومصر، وقد شهدت مدينة حلب التي ذهب إليها عام 1951ليدرس في معهد إعداد المعلمين فيها بداياته في عالم الكتابة، وكانت قصته الأولى “نورا” التي نشرها في إحدى الصحف هناك نوعاً من التدريب على كتابة القصة التي استهوته كثيراً حينها، وبعد تخرجه من المعهد عام 1954 تفرغ للتدريس والمطالعة لتمتين تجربته والتمكّن من أسلوب الكتابة، وقد أدرك حيدر بإحساسه أنه سيكتب منذ البداية بطريقة مختلفة عما هو معروف على صعيد اللغة والزمن الذي بدأ يأخذ عنده طابعاً غير مستمر، فتمرد على الطريقة التقليدية في الكتابة والتي كانت سطحية وغير عميقة وذات صفة أخلاقية ووعظية –برأيه- فكان أحد الذين خرجوا عن هذا الاتجاه بفعل التطور الذي حدث في الأدب والانتقال من الواقعية إلى التعبيرية التي تعنى بالزمان والمكان والنفس البشرية من الداخل، فكان من الكتّاب الحداثيين الذين أحدثوا نقلة نوعية في مجال الكتابة الروائية والقصصية، متأثراً كأبناء جيله بالثقافة الأوربية المترجمة في القاهرة وبيروت وثقافة القرن التاسع عشر.

لا يكتب أدباً خيالياً

كانت الكتابة بالنسبة لحيدر حيدر من أجل التعبير عن الحرية والدعوة للتنوير والعدالة والبحث في مصير الإنسان العربي، فكان مشروعُه إلى حدّ ما يكمن في هدم المقدس السائد والتبشير بشيء آخر مختلف له علاقة بالوعي والعقل والانتقال الحضاري وخلق مجتمع جديد، وهو الذي كان يؤكد أن المحرمات أعاقت تطور الرواية العربية باستثناء تجارب قدَّمها الذين خرجوا عن المألوف وكانوا ضد المفهوم التكفيري المعادي للعقل، وكان يؤسفه أن قلة هم الذين صمدوا وواجهوا التيار السائد، وقد تماهت الأكثرية معه مع أن الأديب الحقيقي برأيه هو الأديب الذي ينتقد المجتمع بكل تفاصيله،لذلك هو لا يكتب أدباً خيالياً وإنما ما له علاقة وثيقة بالواقع والمجتمع، وهو في كل ما كتبه حاول أن يقوم بدوره في تعرية المجتمع السوري والعربي بكل أطيافه إيماناً منه أن مهمته ككاتب أن يكتب عن التنوير ونقد ما هو راكن أو مستقر، معترفاً في الوقت ذاته أنه محبط لأن رسائله ككاتب لم تصل ولم تحقق الهدف، خاصة وأن الحركات التقدمية الثورية منذ البداية وحتى الآن تعيش انتكاساتها، ونحن ما زلنا نعيش عصر الظلمات.

 

لغة شعرية

كان حيدر حيدر يكتب بلغة شعريةلقناعته أنه ما من فصل في يوم من الأيام بين الشعر والنثر، وأن اختياره للسرد والتحليل القريب من اللغة الشعرية يعود إلى اقتناعه بأن هذا الأسلوب اللغوي هو القادر على التعبير عن أعماق الشخصيات الواقعيةالمتخيلة وإنارة ظلماتها لأن أسلوب ولغة رواية الواقعية الاجتماعية يقومان على سرد الوقائع والأحداث والعلاقات الإنسانية بشكل مبسّط وسطحي وفوتوغرافي خارجي بعيداً عن التحليل الداخلي والاضطرابات النفسية والمعقدة والمرضية أحياناً، فلا تكشف عن الظلمات الداخلية للشخصية، ولا تنير كل جهاتها وأبعادها وتناقضاتها، مع إشارته إلى أن أسلوبه الذي أسماه السرد الرفيع والغنائي أحياناً أو الجمالي ليس معزولاً ومقصى عن المعنى “كما ينظر إليه بعض نقاد الواقعيةالسطحيين في قراءتهم الأحادية” مشيراً إلى أن اللغة هي جسد المعنى، والاندماج بين اللغة والأسلوب والمعنى أمر أساسي، وهو كغيره من الكتّاب له لغته التي تميزه عن الآخرين.

وليمة لأعشاب البحر

أقل ما يقال عن روايته الأشهر”وليمة لأعشاب البحر” برأي النقاد أنها ملحمة سردية مدهشة وساحرة ورواية عظيمة استغرق في كتابتها تسع سنوات، وصدرت الطبعة الأولى منها عام 1983 وسببّ نشرها هجوماً ورفضاً وتحريضاً في صفوف الكثيرين من المتعصبين والمتشددين والسلفيين، ولكن بعد سبعة عشر عاماً من صدورها عندما تقررفي القاهرة إعادة طباعتها والتي قدم فيها رؤيته للعالم لم يتوقع حيدر أن تحدث تلك الضجة التي أثيرت حولها ومُنعت من التداول والكتابة عنها لمدة اثني عشرعاماً، إلى أن قامت لجنة تحكيم في مصر بالإقرار بأن الرواية لا تسيء للدين، وقد وصفها المفكر والناقد المصري د.جابر عصفور بأنها من أفضل الروايات العربية المعاصرة على الاطلاق، معتبراً حيدر أن هذه الروايةالتي طُبعت أكثر من عشرين مرة شكلت محطة مهمة له على صعيد الانتشار، وكانت تجربة أكبر منه، وقد مزج فيها بين الجزائر والعراق إلى درجة أن نقاداً كثيرين تحدثوا عنها كتغريبة جزائرية عراقية.

الفهد

في روايته الشهيرة “الفهد” عام 1968 تحدث حير حيدر عن فلّاح بسيط انتزع الإقطاعيون أرضه وتعرّض للتعذيب والسجن، وقد تحولت فيما بعد إلى فيلم سينمائي حمل ذات الاسم في العام 1972 وحصل حينها على جائزتين تقديريتين، الأولى من مهرجان لوكارنو والثانية من مهرجان كارلوفيفاردي وعلى جائزة لجنة التحكيم في مهرجان دمشق..وعن عدم تكرار تجربة السينما لكتاباته بيَّن حيدر في حوار معه أن سبب ذلك يعود لسيطرة سينما المؤلف على السينما السورية، حيث المخرج ذاته هو الذي يؤلف ويخرج، وأحياناً يمثل، فابتعد الجميع عن الأدب المرجع الأساسي للسينما، منوهاً إلى أن عملاً كعمل “وليمة لأعشاب البحر” مثلاً يحتاج لإمكانيات كبيرة لتنفيذه سينمائياً.

المفقود

قبل روايته “المفقود” التي كتبها بعد انقطاع طويل عن كتابة الرواية كان حيدر حيدر يعتقد أنه لن يعود لكتابة الرواية، إلا أن الأحداث وما مرت به سورية حرّضه على الكتابة لتسجيل موقفه اتجاه ما يحدث، فكانت وثيقة انتقد فيها الطائفية والقوى المتشددة والإرهابية، لتكون رواية وثائقية تتحدث عن جندي سوري خُطف من قِبَل داعش وآواه صديق له من الرقة، فظل نحو سنة ونصف بعيداً عن عيون داعش.

بين المدن

من حصين البحر إلى طرطوس فحلب فدمشق إلى عنّابة في الجزائر حيث عمل مدرّسًا للغة العربيّة، ومن الجزائر إلى لبنان حيث التحق بالمقاومة الفلسطينيّة وإعلامها، ومن لبنان إلى قبرص حيث عمل محرّراً ثقافيّاً، وبعدها إلى حصين البحر التي استقر فيها منذ العام 1985بعيداً عن الأضواء والصحافة بعد عودته من أسفاره الطويلة كان يؤكد أن الهجرات التي حملته عبر الفيافي والصحارى والمدن والبحار زوّدته بتجربةٍ لولاها لكان نصف كاتب: “لولا الجزائر ما كانت وليمة لأعشاب البحر ولا الفيضان، ولولا دمشق لما كانت الزمن الموحش، ولولا لبنان لما كانت الوعول والتموّجات وحقل أرجوان”.. إنتنقلاته بين المدن كانت تجربة ثرية استفاد منها كثيراً، وبرأيه أن الزاد الذي يجعل من الإنسان كاتباً هو أولاً قراءاته وثقافته، وثانياً التجربة الحياتية، وثالثاً الموهبة, لذلك هو مدين بكل هذا النجاح لتجربته الحياتية التي لولاهالما كتب بهذا العمق والاختلاف، وأن المنفى الاختياري هو زاد مهم لكل كاتب وهو يصقل الروح من خلال الشقاء الداخلي الذي يعيشه الكاتب بعيداً عن وطنه وهو في نفس الوقت يمكن أن يتيح له الاطلاع على الثقافات والآداب الأخرى.

التحاقه بالمقاومة الفلسطينية

مع بداية الحرب اللبنانية التحق حيدر حيدر بالمقاومة الفلسطينية في إطار الاعلام الفلسطيني الموحّد واتّحاد الكتاب الفلسطينيين في بيروت،وفي أوائل الثمانينيات غادر بيروت إلى قبرص ليعمل في مجلة “الموقف العربي” الأسبوعيّة مسؤولًا عن القسم الثقافي فيها، لكن رحلة قبرص كانت قصيرة لم تتجاوز العامين عاد بعدها إلى لبنان،وبعد رحيل المقاومة الفلسطينية عن بيروت في العام 1982 بعد الاجتياح الإسرائيلي عاد حيدر إلى قبرص مرة ثانية مسؤولاُ عن القسم الثقافي في مجلة “صوت البلاد” الفلسطينية، وكان الانتماء إلى القضية الفلسطينية بالنسبة له اختياراً نضالياً ومصيرياً بالدرجة الأولىلأن الشعب الفلسطيني مسلوب الأرض والوطن، وحريته ووجوده مهددان بقوة الاغتصاب العنصري الصهيوني، فكان من الطبيعي والبديهيوهو المنحاز لقضية الحرية والعدالة ولحقّ الشعوب المضطهدة في الحرية والاستقلال وتقرير المصير‏ أن يرى نفسه في خندق هذا الشعب المكافح والمقاوم من أجل حريته وحقه في الوجود واسترداد أرضه التي طُرد منها بقوّة السلاح، ومن يقرأ أعماله الأدبية يدرك إلى أي مدى كان التأثير والانعكاس للمسيرة الفلسطينية فيما كتب والتي كان يراها مسيرة تراجيدية بما هي ملحمة العرب في القرن العشرين.‏

نقد فقير وجاهل

كان حيدر حيدر يرى أن النقد فقير وجاهل في بلادنا، فهو إما نقد انطباعي تبسيطي لا يدخل إلى أعماق العمل ليحلله ويبنيه من جديد ويضيء ما هو ملتبس ومجازي فيه، وإما نقد صحافي سريع معرّف بالعمل وشارح لبعض مدلولاته الواضحة من خلال قراءة سريعة وسطحية مع عدم وجود نقاد متخصصين يتعلم منهم الأديب من خلال السجالات المعرفية العميقة، وهي ان وجدت برأي حيدر تأخذ طابعاً ذاتياً فيه من المهاترات والتجريح والمزاج الذاتي أكثر مما فيه من توازن موضوعي واستنارة معرفية وثقافية، وفي ظل هذا المناخ البائس في النقد كان يشير إلى أنه من البديهي ألا تنال أعماله الأدبية حقها الموضوعي من الدراسة والنقد الجادّ في سورية في الوقت الذي نالت فيه اهتماماً نقدياً وجوهرياً في البلدان العربية كمصر والمغرب والعراق وتونس ولبنان والجزائر، وكان حيدر كما صرح في أحد حواراته لا يفكّر بالقارئ عند الكتابة، وهدفه فكرة التنوير والحرية العدالة، كما كان يؤمن أن من حق القارئ أن ينقد ما يكتبه، ومن حقه كمؤلف أن يردّ.

لتذهب الجوائز إلى الجحيم

لم يتقدم حيدر حيدر إلى أي جائزة عربية، باستثناء جائزة الرواية العربية في القاهرة والتي منعها عنه الإخوان المسلمون في مصر بعد موقفهم منه بعد صدور روايته “وليمة لأعشاب البحر” ويؤكد حيدر أن الجوائز لا تصنع أديباً ولا نجماً، وهو لم يكن آسفاً على عدمالمشاركة فيها، وأنما هو مهم وجوهريّ هو أن يكتب عملاً أدبيًاً جيّداً قائلاً:”لتذهب الجوائز إلى الجحيم”.

يوميات الضوء والمنفى

كتب حيدر حيدر سيرته الذاتية بعنوان “يوميات الضوء والمنفى” والتي صدرت في كتاب عام 2022 وهي سيرة وقائع مديدة وطويلة، وفيها كشف عن أسرار للمرة الأولى، وهي تلخص مسيرته لأكثر من نصف قرن منذ أن رحل عن حصين البحر إلى حين عودته إليها عام 1985.

 

كلمته للناشئين والشباب

وجّه حيدر حيدر الناشئين والشباب قائلاً: “اقرؤوا كثيراً واكتبوا قليلاً، تثقفوا لا في الأدب وحسب بل في العلوم الاجتماعية والفنون: التاريخ، الفلسفة، علم النفس، التراث العربي، الأساطير، الشعر، علم الاجتماع، احتياز لغة أجنبية.. هذه الأسلحة المعنوية والذخيرة الثقافية هي زاد الرحلة في صحراء الكتابة والتي في النهاية توصلكم إلى الواحة والينابيع”.

شاهد مشارك..متفهم جريء

يرى الكاتب والشاعر غسان ونوس بأن حيدر حيدر لم يكن متفرجاً أو منظّراً، ولم يتردد في الخوض والفيض والزود قدر ما يستطيع، غير هياب ولا طلاّب منّةً أو شهرة أو اعترافاً، غير متملق ولا متكسب ولا مزاود أو منافس لأحد على موقع أو شهرة أو جاه وكان شاهداً مشاركاًومتفهماً جريئاً، محولاً الواقع بمرارته وقسوته وعناصره وكائناته وعلاقاته إلى لوحات أدبية فنية تمور بالحيوية وتفيض بالمعاني وتنبض ثراءً ورغبةً ولهفة.

 

درع غسان كنفاني

ولِد الراحل حيدر حيدر في العام 1936 في قرية حصين البحر-طرطوس وفيها تلقى دراسته الابتدائية، وبعد إتمام دراسته الإعدادية في مدينة طرطوس عام 1951 انتسب إلى معهد المعلمين التربوي في مدينة حلب،وفيه ظهرت ميوله الأدبية بتشجيع من مدرّس اللغة العربية وبعض من الأصدقاء، وبعد التخرج عام 1954 وممارسة التدريس لعقد من الزمن انتقل إلى دمشق، وفيها بدأ ينشر قصصًه في الصحف اليومية والدوريات الشهرية، وكذلك في مجلة “الآداب”اللبنانية، إلى أن أصدر مجموعته الأولى “حكايا النورس المهاجر” في العام 1968 الذي شهد تأسيس اتّحاد الكتّاب العرب في دمشق،فكان أحد مؤسسيه وعضواً في مكتبه التنفيذي، وكانت مجموعته “الومض” التي نشرت عام 1970 من بين أولى إصدارات الاتّحاد.

من رواياته: “الزمن الموحش، الفهد، مرايا النار، شموس الغجر، هجرة السنونو”.. ومن مجموعاته القصصية: “حكايا النورس المهاجر، الوعول، التموّجات”.. ومن كتبه: “أوراق المنفى، شهادات عن أحوال زماننا” وتُرجمت أعماله إلى اللغات الألمانية والإنكليزية والفرنسية والإيطالية والفرنسية،وحصل على درع غسان كنفاني للرواية العربية عام 2022.