جامعاتنا لم تنجح بعد في ممارسة دورها الحقيقي.. شعارها الرنان “الربط بالمجتمع” ما زال مجرد كلام!
من دون مقدمات، الكرة الآن في ملعب مجلس التعليم العالي، وواقع الحال أن جامعاتنا بالرغم من عمرها الطويل لم تنجح لغاية اليوم في ممارسة دورها في المجتمع كما يجب، وبقي شعارها الرنان “ربط الجامعة بالمجتمع” مجرد كلام يعاد في كل مناسبة.
مخازن كبيرة
للأسف، تحولت الجامعات السورية إلى مخازن كبيرة لتكديس العاطلين عن العمل، فاليوم هناك عشرات الآلاف من الخريجين الجامعيين عاطلين عن العمل، والسبب ليس في انكماش فرص التوظيف، بل في نوعية الشهادة الجامعية التي لم تعد تناسب حاجات ومتطلبات سوق العمل، والسبب في المناهج والمقررات الجامعية التي ما زالت تجتر معلومات عمرها عقود من الزمن، والمشكلة أنهم يحدثونك بأن الجامعات تعمل على تحديث المناهج، لكن من يدقق يجد أن بعضها تم تأليفه وإعداده بطريقة النسخ واللصق والاكتفاء بتغيير الغلاف وتاريخ النشر، وهنا ثمة سؤال: ماذا تفعل المديريات الجامعية التي تتابع وتراقب حركة التأليف والنشر في الجامعة؟ وكيف توافق على التأليف والنشر واعتماد الكتاب كمقرر في الكلية؟
للترقية فقط!
في لقاء مع عدد من أساتذة الجامعة، كان هناك اعتراف بأن الحماس لجهة إجراء بحث أو تأليف كتاب ناتج بالدرجة الأولى عن رغبة الأستاذ لضمان ترقية علمية (أستاذ مساعد – أستاذ – بروفيسور..)، والمؤسف هنا أن تكون جودة المنتج العلمي هي في آخر الاهتمامات! لذلك لا عجب أن يتراجع تصنيف جامعاتنا، أو أن يبقى يرواح في مكانه، بالرغم مما حققته مؤخراً جامعة دمشق – على سبيل المثال لا الحصر – من تقدم ضمن تصنيف كيو اس (#QS) بعد سنوات من التراجع!
أساتذة الجامعة لا يريدون من مجلس التعليم العالي الإكثار من عرض الخطط ذات الأولويات التي تهتم بالتعليم العالي، مؤكدين أن شحنة الدعم التي تلقاها المجلس من السيد رئيس الجمهورية من المفروض أن تستنفر الجهود على مدار ساعات العمل بمزيد من الجهد والعطاء لتطوير العملية التعليمية، بل كامل المنظومة التعليمية بدءاً من القبول مرورا بالتدريس والبحث والامتحانات الجامعية التي عليها الكثير من الملاحظات وصولاً إلى مخرجات بجودة ونوعية عالية قادرة على المنافسة عالمياً.
الأساتذة اغتنموا فرصة الحديث لـ “البعث” بالمطالبة بتحسين المستوى المعيشي لأعضاء الهيئة التدريسية في الجامعات الحكومية حيث أن ما يتقاضاه عضو الهيئة التدريسية في الجامعات الخاصة أعلى بعشرين ضعفاً مما يتقاضاه عضو الهيئة التدريسية في الجامعات الحكومية، مؤكدين أن الراحة النفسية والبحبوحة المادية لعضو الهيئة التدريسية أمر ضروري من أجل أن يكون قادراً على الإبداع في التدريس والبحث العلمي.
تشكيل لجان
ولا بأس من تشكيل لجان فنية مختصة لوضع الرؤى والخطط التنفيذية لكل ما طُرح وتطبيقه على أرض الواقع، مع الاهتمام بجودة التعليم الجامعي وقياس احتياجات سوق العمل الحقيقية، وفق ما أشار إليه السيد وزير التعليم العالي والبحث العلمي، الدكتور بسام إبراهيم في اجتماعه مع المجلس، عقب لقاء السيد الرئيس، لكن الخشية من بطء عمل هذه اللجان وتراخيها، وهذا أمر وارد ومحتمل، فبعد أكثر من نصف قرن على تأسيس وزارة التعليم العالي ما زال هناك الكثير من السلبيات والمآخذ على منظومتنا التعليمية!
“بحش” علمي!
بالرغم من الحديث عن تطور البحث العلمي في الجامعات السورية، لكنه بنظر العديد من الباحثين ما زال أقرب لـ “البحش” من البحث، نتيجة غياب مقوماته الأساسية، مشيرين إلى أن صندوق دعم البحث العلمي الذي تم إحداثه غير كافٍ للدعم، مبدين أسفهم على وجود عشرات، بل مئات، الأبحاث العلمية المميزة على الرفوف تنتظر من ينفض الغبار عنها!
ولم يخفِ أحد الأساتذة وجود فساد ينخر في بنية المؤسسات الجامعية والمراكز البحثية، وهذا – برأيه – يقتل روح العلم والبحث عند الباحث مطالباً بمكافحة الفساد الإداري والعلمي الذي يظهر ببعض الجامعات وضربه بيد من حديد.
في المقابل، هناك عدد من الأساتذة وطلبة الدراسات العليا يرون أن الانتقادات الموجهة للأبحاث المنجزة في الجامعات السورية خلال السنوات العشر الأخيرة ليست كلها منطقية، ويصفونها بالظالمة قياساً للظروف الصعبة التي مرت بها سورية وظروف الجامعات التي كانت مستهدفة بشكل مركّز في محاولة واضحة لتشويه سمعتها والنيل من هيبتها بغض النظر عن التقصير الذي حصل من إدارات الجامعات أو وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، والتي تتحمل جزءاً من مسؤولية تراجع تصنيف جامعاتنا عالمياً، وإهمال تنفيذ وتطبيق الأبحاث العلمية المميزة.
الامتحانات الجامعية
أيضاً الامتحانات الجامعية إحدى القضايا الهامة التي يجب أن يتم التركيز عليها، حيث لا زالت تتبع أسلوباً قديماً يعتمد على الحفظ البصم، دون فهم، فالملاحظ أن طلبة الجامعات يدرسون حتى ينجحون بالامتحان وليس من أجل الفهم، والدليل – بحسب بعض الأساتذة – أن قسماً كبيراً من الخريجين يتعثرون عند ممارسة عملهم المهني بتخصصهم الجامعي.
ودعا البعض إلى عقد مؤتمر وطني لتطوير الامتحانات ووضعها على السكة الصحيحة بهدف ضمان مخرجات صحيحة، فالامتحانات هي شرف الجامعة، لذلك يجب أن تصان وتجرى بطريقة عادلة تحقق الغاية منها في قياس مقدرة الطلبة، فيما دعا آخرون إلى تحسين الأسلوب التدريسي في الجامعات.
طرق القبول
نجزم أن وزارة التعليم العالي، بل اللجنة العليا للاستيعاب الجامعي، تدرك جيداً أن طرق القبول في الجامعات غير عادلة وهي لا توحي بالثقة والمصداقية للبيت السوري، فالمعدلات الجامعية ترتفع كل عام لتلامس أقصى الدرجات، وبالتالي هذا يؤدي لانكماش فرص القبول أمام الطلبة، نظراً لاعتماد العلامة كعامل رئيسي في القبول، وهذا بلا شك غير عادل لأنه يضرب بالرغبات الحقيقية والأمنيات عرض الحائط، لذلك على اللجان التي ستشكل من قبل مجلس التعليم العالي أن تعي جيداً هذه المشكلة وتبحث عن صيغ وطرق أكثر مرونة وعدالة، أيضاً بذات الوقت يجب أن تعمل على فرملة القبول في بعض التخصصات، فالواضح للجميع أن هناك تضخم بعدد الخريجين غير المهمين وغالبيتهم عاطل عن العمل، وهذا يستدعي الدقة في اختيار التخصصات التي يحتاجها البلد للسنوات القادمة بعيداً عن العشوائية.
بالمختصر، نحتاج إلى إعادة النظر بمجمل السياسة التعليمية المتبعة في الجامعات السورية، بل وفي وزارة التربية، ووضع التعليم التقاني في أولويات اهتماماتنا لأن الخريجين فيه هم عماد المستقبل.
هذا غيض من فيض مما يجب التركيز عليه وسنتابع في القادم من أيام الإشارة إلى جوانب أخرى في منظومتنا التعليمية الجامعية التي تحتاج لتصحيح مسار في الوقت العاجل من أجل أن نحقق الرؤية الطموحة لتعليمنا العالي ليصبح أعلى بأدائه ومخرجاته.
غسان فطوم