قراءة في المجموعة الشعرية “القصيدة تبحث عن زمن آخر”
البعث الأسبوعية – هويدا محمد مصطفى
صدر للشاعر طلال الغوار مجموعة شعرية بعنوان “القصيدة تبحث عن زمن آخر” الصادرة عن دار أمل الجديدة وتضم بين دفتيها حوالي /٣٣/قصيدة تنوعت مابين الوجداني والإنساني والغزلي والوطني .
العنوان هو مشهد شعري متعدد الجوانب ينتمي إلى الداخل النفسي المتغير من الفرح إلى الحزن إلى آخر هذه الانفعالات لتأتي القصيدة كأنها لوحات متعددة الألوان بلغة مثقلة قوية وألفاظ جزلة لتكون قصيدته الأولى بعنوان “ما يصلح لكتابة قصيدة” حيث يقول الشاعر: أفتح نافذتي على الصباح /لم أر ثمة شيء/يصلح لكتابة قصيدة/فكل ماأراه/ ألفته من قبل/ من أشجار/ وحدائق/ ووجوه/ وشوارع/ عربات الإسعاف/ أو عربات الشرطة/.
هنا نجد مهارة الشاعر المبدع كيف يمرر شعاراته بين خيوط النسيج الشعري وبين متعة التوظيف الذكي والسرد المدهش وفق إيقاعات اللحظة المضطربة في الزمان فرسم الشاعر مشاعره رغم انغلاق الأفق في أقسى الأزمنة وبرهافة مبدع ومخيلة خصبة وإتقان النص الشعري وهذا ما نجده في قصيدة بعنوان “أحبك بقوة” حيث يقول : أحبك بقوة/لكي نمزق ثوب العتمة/وتمثل عارية/بين يديك القصائد/ أحبك بقوة/ ليرفعنا الحب أكثر/ إلى أعاليه/ وهناك نسخر من مجد السلطان/نسخر من أحلام الطغاة / حين تتحول إلى زواحف/ونحن نلاحقها بالضحكات.
نجد الشاعر تعمد الكتابة بروح محلقة شكلاً ومضموناً لتأتي القصيدة بحالة من المشاعر التعبيرية وتتنوع حسب معناها الخاص المتشعبة بالنضوج والحس الإنساني والفكر العميق ومزجهما بالوجدان الصادق الذي يعكس داخله إلى خارجه فنرى طاقة شعرية قادرة على إزاحة مستويات التعبير إلى عمق دلالي ومع ذلك تعمل عناصره على تشكيل مشهد شعري فيظل النص منذ عتبة العنوان يكشف طوال الوقت هذه الأعماق الدلالية ليقدم صورة شعرية بلغة متحررة فالمفردات تتألق في شغب وتلامس برهافة مشاعرنا ومع حضور الصورة بكل تجلياتها وثراء مفرداته وعالمه تبقى بنية الكلمة من القوة في ترتيبها وحركاتها وسكناتها داخل النص وهذا ما نجده في قصيدة بعنوان”القصيدة تبحث عن زمن آخر” ليقول الشاعر: سأفتح نافذة/وأطل منها على الحياة/ أليس القصائد تنمو في اتساع الحياة/ سأكتب عن تلك الشجرة/ التي تتكئ على رأس الشارع / ولكني لاأريد أن تكون قصائدي خضراء ووادعة /
نطل أمام فيضاً من مشاعر مختلفة ناتج عن هذا التنوع الصوفي المغامر بالصوت الصوفي إلى الذات الحاضرة التي توجه المعنى ثم تتال صور عاصفة تطاول المستحيل وتحيل الفرح المباغت إلى حزن متمكن يحتمه الفقدان العاطفي والموسيقى المستمدة من وقع كلمات ذات جرس واحد فهي ليست محضاً حيلاً فنية بل هي تؤكد محاولة تقريب الشكل من المضمون وتعطي القصيدة خصوصيتها التي تشبه العزف المنفرد على وتري الغياب والحضور من خلال قراءتي المجموعة الشعرية تؤكد انتماءه الحداثي ومفرداته اليومية ليصعد بها إلى أفق الشعرية واعتمد المجاز في بناء الجملة وهذا ما نجده في قصيدة بعنوان /ايماءات/ليقول الشاعر: الليل/ لايعرف نفسه/ حينما/ يكون بلا قمر/ كوني قمري/ امرأة/ تجلس على رمل الشاطىء/ وتغري / بأنوثتها الموج/ خذها/ وضمها إلى صدرك/ أيها البحر/
النص يحمل خصوصية الأداء الفني المميز وضروراته المتقنة للقارئ ليس كفكرة فقط وإنما كون من الدلالة في تشكيلها الشعري إلى وعي المتلقي كي تحدث أثراً هاماً وتضيف أبعاد أعمق تتألف في وحدة عضوية متماسكة ومتسقة مع دلالة الطرح تنسجم مع المفردات في عذوبتها وهمسها المليء بالانفعال العاطفي عبر صور شعرية هادئة كهدوء الموسيقى ترصد صورة ثرية الدلالة متوهجة الإيقاع عذبة المفردات وهذا يوضح مدلول آخر لمستوى رؤية الشاعر لعلاقة الحب بالزمن وقد اعتمد الشاعر التدرج في التعبير من بنية إلى أخرى رغم وضوح المعاني والدلالة والشاعرية الفلسفية مما يجعل القارئ أمام مصادر الدهشة والرومانسية المحلقة على عمود الشعر وفي قصيدة بعنوان/ أقف وحيداً/ يقول الشاعر: /أجدك في الصباح قصيدة/انتهت الحرب/ وصرت اتحصن بحبك/ بدل الخوذة/ كل صباح/ أخال نفسي/ أني أفيء بظل شجرة/ خرجت وحيدة من الغابة/ كنت أرقب روحي/ تطير مثل فراشة هائمة/ لكني لم أرك تدسين زهرة/ تحت ثيابي/.
نجد هنا حالة من الانهيار والاستسلام المبطنة في كل ما يلاقيه من وجع في دروب الحب فينتقل إلى المناجاة بأسلوب تقريري يؤكد من خلاله لربما لنفسه وللمحبوبة عظيم ماغشاه في بحثه عنها فاعتمد الطرح الداخلي والإحساس المعلن والخفيف بمهارة عالية بين الرغبات الحسية التي تنتمي لعالم الواقع من مساحة شاسعة من الخيال والحلم ليقول في قصيدة بعنوان” حلم تحت الوسادة”: البلاد / صباحات مسروقة/ في صرة الليل/ البلاد/ عصا يلوح بها/ تمثال حجري/ أو فزع يلاحقني/ وهو يخرج من قباب منخورة/ .
مما لاشك فيه أن الفعل الجمالي والإبداعي ينطلق أساساً من ذلك التوهج والاشتعال الذي يثيره السؤال أو مجموعة الأسئلة التي تعتمل في ذهن الشاعر الذي يعيش وإياها حالة من الصراع الدائم بحثاً عن الإجابة وفي كثير من الأحيان يصل إلى اللا جدوى محتجزاً في فلك تلك الأسئلة هذا ما قرأته في مجموعة الشاعر طلال الغوار “القصيدة تبحث عن زمن آخر” أجد أن القصائد حققت شعريته بمجمل خطوطه الدلالية ومجمل أبنيته الصياغية ومجموع ابتكاراته التصويرية مما يكسب المتلقي ذائقة جمالية وتقنية شعرية برؤية حداثية متطورة ومتعددة الأوجه والتأويلات التي اعتمدها الشاعر لتصل حد الإدهاش .