مجلة البعث الأسبوعية

الحداثة كمفهوم إشكالي

البعث الأسبوعية- سلوى عباس

تباينت الآراء وتنوعت حول “الحداثة كمفهوم إشكالي”، فمنهم من رآها قراءة لمعطيات العصر برؤية جديدة، ومنهم من رأى أنها وليدة انهيار الثقة بين الشاعر والمؤسسات الثقافية، والبعض الآخر اتفقوا على أنها ثورة على التقليد.

لكن بعيداً عن الآراء وتبايناتها يمكن الحديث عن الحداثة من جانبين، الجانب الأول هو الإحساس بالحاجة لتغيير الحياة والدخول في حياة جديدة منسجمة مع العصر أكثر من الحياة السابقة التي كانت مرتبطة بقيم متخلِّفة وبإيقاع حياة بطيء، وبالتالي الحداثة من هذا المنظور هي جزء من مشروع اجتماعي وسياسي واقتصادي وثقافي، هذا من حيث الحديث عن الخلفية التي تدفع لولادة الحداثة، أو التفكير بالحداثة، وهذا التفكير كما هو معروف بدأ عند العرب منذ منتصف القرن التاسع عشر لإحساسهم أن الغرب قد سبقهم وأن حياتهم متخلفة وحافلة بالبحث عن صيغ جديدة للحياة، وعلاقات جديدة وتفكير جديد قادهم إلى البحث عن أسلوب تعبير جديد، وأن كل تجديد يجب أن يعبّر عن نفسه بطريقة جديدة، وهنا يظهر الجانب الثاني من الحداثة كأسلوب تعبير بالشكل الشعري، وهذا الأسلوب الجديد هو الإحساس أن الشكل القديم لم يعد قادراً على استيعاب التجربة المعاصرة والتطلعات والهموم المعاصرة.

النقطة الثانية من الرؤية للحداثة -كما عرفتها من خلال قراءاتي- هي تقرير نوع العلاقة مع المتلقي، فإذا قارنا بين الحداثة والكلاسيكية نرى إن الكلاسيكية تتعامل مع المتلقي بأسلوب التلقين، لأنه ضمن عقلية المجتمع الكلاسيكي هناك حكمة جاهزة عند الشاعر يتلقاها من الأب أو أي مرجعية ينتمي إليها، سواء سياسية أو اجتماعية أو فكرية أو دينية، وبنفس المنطق هناك جمهور يتلقى حكمة وخبرة هذه المرجعيات. أما من حيث تقييم الشعر ضمن نطاق “الحداثة” فإننا نراه دعوة للتفاعل وليس تلقيناً أي أن المتلقي يصبح جزءاً أساسياً من القصيدة وتفاعله معها هو جزء من التجربة التي تنقل القصيدة، هذا طبعاً، إذا كان الشاعر يعبّر عن تجربة يجب أن يتمكن من إيصال أفكاره للمتلقي بتوسيع رؤيته وتقديم تجربته بحيادية وبعيداً عن التلقين والحكمة الجاهزة، فإذا تمعنا قليلاً في أسلوب التدريس في المدارس نرى أنه يوجد أسلوب قديم وأسلوب حديث، ونرى أن الفرق كبير بين الأسلوب القديم الذي يكون التلميذ فيه متلقياً للمعلومات من الأستاذ يحفظها ويستظهرها ثم يعيد تقديمها في الامتحان لكي يثبت أنه قد تمثل هذه الحكمة أو استوعبها، وبين التعليم الحديث الذي يقول إن التعليم هو تحريض ذهن التلميذ على التفكير، والمسافة هائلة بين الأسلوبين، فأسلوب التلقين كان متوارثاً وهذا جزء من عقلية البشرية سابقاً ومنها مقولة “الأكبر منك بيوم أعرف منك بسنة” لكن الآن عُكست الآية لتصبح “الأصغر منك بيوم أعرف منك بسنة” لأن أولادنا يعرفون أكثر منَّا ونحن نعرف أكثر من آبائنا.

وانطلاقاً مما سبق تأتي الحداثة الشعرية ضمن المقولة الكبيرة التي مفادها أن القارئ شريك وليس تلميذاً، والتجربة التي يعبّر عنها الشاعر لا يعبّر عنها لأنها تجربته الذاتية الخاصة فقط، فهي لا قيمة لها إذا لم تستطع أن تلمس جوانب مشتركة مع القراء، ففي موضوع “الحب” مثلاً، نرى الكثير من البشر أحبوا وملايين القصائد كتبت في الحب، لكن القصائد التي بقيت هي تلك التي يحس كل قارئ أنها تعبّر عن شيء مشترك معه وباقي القصائد لم تكن تعني إلا تجربة أصحابها، ومن هنا تأتي إشكالية الحداثة كمفهوم، لأن كل ما هو جديد يحمل إشكاليته، لأكثر من سبب، أولاً لأن الحداثة مشروع شخصي بمقدار ما هي مشروع اجتماعي، وبالتالي كل شخص لديه مشروعه الحداثي وخاصة حين يتعلق الأمر بالإبداع وليس بالحركة الاجتماعية، وثانياً عندما يتعلق بالإبداع كل واحد ضمن رؤيته ينتج شعره الحديث، فهذا الأمر يجعله إشكالياً، حيث يختلف الحداثويون عن بعضهم، وكون الحداثة مشروعاً كبيراً فهي مشروع لم يكتمل ولم ينجز، وهو قيد الإنجاز وسيبقى قيد الإنجاز طوال العمر لأنه رغبة في التجديد.