القمّة السورية الصينية تؤسس لواقع جديد في العلاقات الدولية: العقوبات ليست قدراً والغرب أعجز عن التحكم بمصائر الشعوب
البعث الأسبوعية – طلال ياسر الزعبي
لا شك أن الأعوام الاثني عشر الماضية من عمر الحرب الإرهابية على سورية وما تخلّلها من حصار اقتصادي خانق قادته الدول ذاتها التي أدارت الحرب الكونية عليها، كانت كفيلة بإعطاء صورة واضحة للمشهد الذي يحاول الغرب الوصول إليه، حيث يُعدّ الهجوم على سورية بكل ما حمل من وحشية ومخالفة لقواعد القانون الدولي أنموذجاً واضحاً للتوحّش الغربي الذي لا يرى أيّ قيمة للإنسان في سبيل الحصول على غايته المنشودة، وهي الهيمنة على العالم واستغلال مقدّرات جميع الدول للوصول إلى سيطرة غربية كاملة على هذا العالم ومنع ولادة نظام عالمي جديد متعدّد الأقطاب تسوده قيم العدالة والتسامح بدلاً من الظلم والعبودية وسرقة ثروات الشعوب التي يعيش عليها النظام الغربي المتهالك.
ولا يختلف اثنان على أن الهجوم الغربي الشرس على المنطقة العربية خلال العقد الماضي تحت عنوان “الربيع العربي” كان أداة لتطويع شعوب المنطقة وإعادتها قسراً إلى الحظيرة الغربية، خدمة للإمبريالية والصهيونية العالمية التي تعتقد أن الحق في العيش على الكرة الأرضية يجب أن يقتصر على مجموعة من الناس تتصف بصفات تحدّدها المنظومة الغربية، أهمها أن الجنوب العالمي يجب أن يكون مسخّراً فقط لخدمة رفاهية الشمال الاستعماري الغربي، وصولاً إلى نظرية المليار الذهبي التي ما برح الغرب يسوّق لها في أدبيّاته، كما جاء على لسان أغلب قادة الاستعمار الغربي الحديث.
ومن هنا، جاءت الهجمة الغربية الشرسة على سورية التي تمكّنت من الصمود أمام أعتى حرب عرفها التاريخ، واستخدمت فيها جميع الوسائل العسكرية والاقتصادية، عبر دعم جماعات إرهابية جيء بها من أقصى بقاع الأرض لتدمير الدولة السورية ببناها التحتية وتفتيتها على أساس عرقي وطائفي يؤدّي إلى إغراقها في بحر من الفوضى والدماء، ويجعلها مدخلاً لتفتيت سائر الدول العربية وربّما منطلقاً لنشر الإرهاب في الدول الكبرى التي تقف على تماس مباشر مع الدول العربية، ومن هذه الدول طبعاً إيران وروسيا والصين، التي تشكّل هاجساً وجوديّاً للغرب من خلال الأنموذج الذي تسعى إلى تحقيقه على أرض الواقع في العالم، وهو أنموذج يهدّد القيم الغربية المبنيّة في حقيقتها على استغلال الشعوب ونهب وثرواتها ونشر الفقر والتخلف فيها، حتى يستمرّ الغرب قويّاً مهيمناً يعيش بشكل طفيلي على ثروات الأمم.
وبالعودة إلى سورية، فإن موقعها المتوسّط في العالم، وكونها الممر الأساسي للعلاقة بين الشرق والغرب تاريخياً، جعلا الاهتمام الغربي بالسيطرة عليها واضحاً، حيث يشكّل ذلك قمعاً لمحاولات الصين للدخول إلى شرق المتوسط، كما يشكّل في الوقت نفسه منعاً لروسيا من الوصول إلى المياه الدافئة، وهذا سيؤدّي حتماً، بالإضافة إلى إجراءات أخرى، إلى انكفاء الطرفين داخل حدودهما ومنعهما من التواصل الاقتصادي والسياسي مع سائر دول العالم، وبالتالي إضعافهما.
فالعلاقة بين سورية والصين، قديمها وجديدها، لم تتغيّر، حيث تعدّ سورية نهاية طريق الحرير التاريخي الصيني، وهي العقدة الأساسية لوصول الصين إلى البحر المتوسط، وذلك أن مبادرة “الحزام والطريق” التي طرحتها الصين في عام 2013 تعتمد طرقاً معيّنة للوصول إلى أوروبا، منها الموانئ السورية بشكل خاص، وبالتالي فإن هذه الموانئ مؤهّلة لحركة تنمية غير مسبوقة، ستنعكس على الاقتصاد السوري الضعيف بفعل سنوات الحرب الإرهابية والحصار الغربي المفروض على سورية بالتوازي.
ومبادرة “الحزام والطريق” أو “طريق الحرير الجديدة”، مشروع صيني ضخم لإقامة سكك حديد وبنى تحتية تربط الصين بآسيا وأوروبا وإفريقيا، وستمرّ عبر عدة دول، وقد انضمّت سورية إلى هذه المبادرة في العام الماضي، وفي مواجهة هذه المبادرة تحاول الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة، إعاقة تحقيق هذه المبادرة التي ستكون أداة عالمية في الاتجاه نحو عالم متعدّد الأقطاب لا يريد الغرب الوصول إليه، لأنه سينهي أحلامه في الهيمنة.
وقد جاءت زيارة السيد الرئيس بشار الأسد إلى الصين، والاتفاق على الشراكة الاستراتيجية بين البلدين الصديقين، لتؤكّد حقيقة أن العالم ليس فقط الغرب، وأن العقوبات الغربية ليست قدراً على الدول والشعوب، فسورية شأنها شأن الكثير من الدول التي تعرّضت للعقوبات الغربية قادرة على التخلّص من هذا الفخ، حيث ترتبط مع الصين بعلاقات تاريخية وثيقة، وتتشاركان الهموم والقضايا ذاتها المتعلّقة بضرورة سيادة الأخلاق ورفض الهيمنة واستغلال الشعوب ونهب ثرواتها، وهي من هذا المنطلق عندما تتواصل مع الصين إنما تسير في الطريق الطبيعي للتنمية الحقيقية بعيداً عن ارتهان القرار السياسي للغرب بفعل الاقتصاد، وفي سورية من الثروات والموقع والأهمية ما يؤهّلها لأن تكون بوابة طبيعية للصين إلى أوروبا وإفريقيا، كما أن لسورية مصالح كبيرة في الارتباط اقتصادياً مع أعظم دول الشرق على الإطلاق، وليس الغرب الآن في موقع يؤهّله لفرض فيتو على الدول في علاقاتها.
وعلى هذا الأساس جاءت إطلاق “الشراكة الاستراتيجية” ليعزّز التنسيق في الشؤون الإقليمية والدولية بين البلدين، بما في ذلك المجال العسكري، وهي تؤسّس لواقع جديد في العلاقات الدولية يستند إلى ضرورة منع الغرب من الاستمرار بالتحكم في مصائر الشعوب، بل لا بدّ فعلياً من التقاء مجموعة من الدول التي تتعرّض للعقوبات الغربية الأحادية، ومنها روسيا والصين وسورية وإيران وفنزويلا وكوبا وبيلاروس، على هدف واحد هو إنهاء الهيمنة الغربية على القرار العالمي والوصول إلى عالم جديد تسوده المحبّة والتسامح، بعيداً عن القيم الغربية المتوحّشة التي لا تقيم وزناً لحقوق الإنسان في الوقت الذي تتبجّح فيه بأنها تهتم بهذا الشأن.
ومهما حاولت وسائل الإعلام التي تسير في الفلك الأمريكي الغربي فإنها لن تستطيع إخفاء حجم الغضب والقلق اللذين ينتابان الأوساط الغربية من وصول هذه الزيارة إلى مبتغاها، وهو الاتجاه نحو الشرق وترك الغرب ينبح خلف مصالحه التي لن تكون ميسّرة بعد خروجه نهائياً من هذا الشرق بفعل هزيمته المدوّية أمام التحالفات الجديدة التي ينسجها الرئيس الأسد وأصدقاؤه هناك.
فهذا الإعلام حاول التعمية على المحاولة الغربية الفاشلة للالتفاف على طريق الحرير الصيني عبر ما سمّاه “الممر الاقتصادي” من الهند إلى أوروبا عبر الخليج وميناء حيفا واليونان وصولاً إلى ألمانيا، حيث يظهر هذا الممر بوضوح أن الحرب على سورية كانت في جزء كبير منها حرباً على الموانئ السورية، لتحويل التجارة العالمية منها إلى الكيان الصهيوني، وتفجيرُ ميناء بيروت كان حلقة من تلك الحلقات.
ومن هنا فإن الصين ستختار العودة إلى الموانئ السورية، عبر إيران والعراق اللذين يعدّان مصدّرين أساسيين للنفط إليها، وهذا يقتضي طبعاً التنسيق مع الحكومة العراقية في هذا المجال، ولن تستطيع العقوبات الأمريكية عندها أن تحول دون هذا التشبيك الذي سيجلب التنمية للمنطقة بأكملها، حيث سيساهم التنسيق بين سورية والعراق وإيران أمنياً في صناعة مناخ مناسب للاستثمارات الصينية يعود بالنفع على البلدان الثلاثة، وهذا بالضبط ما تخشاه الولايات المتحدة الأمريكية التي ستجد نفسها كائناً غريباً في المنطقة بعد انعدام قدرتها على التأثير أمنياً فيها عبر جماعاتها الإرهابية.
وبما أن الشركات الصينية كانت قد استثمرت مبالغ كبيرة في مشاريع داخل سورية قبل اندلاع الحرب عليها، إذ استثمرت شركتا “سينوبك” و”سينوكيم”، إلى جانب “مؤسسة البترول الوطنية الصينية”، 3 مليارات دولار في سورية، فمن الطبيعي أن تعود هذه الشركات وغيرها للاستثمار في سورية، وخاصة أن مبادرة الحزام والطريق تعتمد في أساسها على إنشاء بنى تحتية وسكك حديدية وشبكة مواصلات ومصانع ومعامل على طريق تنمية جميع الدول التي يمرّ بها طريق الحرير الصيني.
وفي جميع الأحوال، يؤكّد البيان الصادر عن قمّة الزعيمين الكبيرين حجم الغضب الغربي من مخرجات هذه القمة، حيث يشدّد على شراكة البلدين في مجموعة من القضايا الاقتصادية والسياسية والدفاعية، ورفضهما للسياسات الغربية الرامية إلى استمرار الهيمنة على الشعوب باستخدام أدوات الديمقراطية وحقوق الإنسان، ودعم كل من البلدين لسيادة ووحدة أراضي البلد الآخر، الأمر الذي لا يستطيع الغرب ووسائل إعلامه إخفاء امتعاضهم وقلقهم منه، وخاصة أن الرسائل التي أطلقها البيان كانت في جميع الاتجاهات، ولن يقف التعاون بين سورية والصين عند الحدود التي يحلم الغرب بالوقوف عندها، ما دامت هناك إرادة سياسية قوية للاستمرار في هذا التعاون.