ناس ومطارح.. نسيبة مطلق: ابنة يبرود وأم أيتامها العزباء
تمّام بركات
يمكن أن تقرأ قصيدة بديعة، أو مقالاً بارعاً، لربما كتاباً رزيناً، عن حب المكان، وعلاقة الإنسان به، ويمكن لك أن تشاهد فيلماً جميلاً عن ذلك، أو مسلسلاً يقدم في بعض خطوطه الدرامية هذه الثيمة، ثم تتأثر وتتحرك مشاعرك، ومع انتهاء ما تشاهد تمضي لحالك، وقد تذكر ما قرأت أو شاهدت، وربما لا، وقد تقتنع بما قرأت وشاهدت، وربما تعزوه إلى “الوسيلة” ومراميها.
لكنك إن رأيت لهذه الثيمة في الواقع، في الحياة، بين من تعرف، ناهضة على أتم وجه، وبكامل عافيتها، دون حتى أي إعلان عن ذلك، ولا مفاخرة أو مباهاة أو تحسر، فحينها وإن مضيت، ما رأيت، سيبقى محفوراً في وجدانك، وستجهد لتصنع مثله، وتنقله إن قدرت لجيل قادم، فالنبل معدٍ.
نسيبة المطلق، ابنة يبرود وأم أيتامها العزباء، رأت هذه العلاقة تورق بين أبيها وحقله الصغير، فصارت بالنسبة إليها “مثلاً” طمحت طوال حياتها إليه، واشتغلت بصمت عميق لبلوغه، تحيك للواقع اليبرودي القارس، من الأدب جورباً سميكاً، وتضع على أكتاف الشخصيات التي قررت التعامل معها في الواقع، شال الأمومة الرافع من اليتم وقهره.
مع بداية الحرب على البلاد عام 2011، كانت نسيبة –يبرود/1975-تمضي أيامها بين البيت والعمل في مدينة “يبرود”، المدينة التي لا تزال صلة الوصل القائمة، بين عالم الماضي واليوم، وبين “البينين” عرفت نسيبة كيف تلتقط حبوب الجمال والخير، تلك التي تقع من منقار طائر الخيال، بعد أن يفرد جناحيه بين رفوف الحمام المشهورة في المدينة، ويحلق فوقها وفيها، جمال يبرود وطبيعتها الجبلية الخلابة، بيوت الحجر المتسقة أسطحها مع حركة الغيم، أصص الورد على الشرفات والنوافذ، الطرق المتعرجة والمتشعبة كما لو أنها شجرة عملاقة، ساحات البيوت ثمارها، والخير الذي لو لم يكن منثوراً فوق تلك الربا السورية الشماء، لكانت المدينة مدمرة، كما العديد من المدن السورية التي دمرتها الحرب، وعلى يد بعض أبناءها قبل غيرهم، وهذا ما لم يقع فيها، رغم أن حرباً طاحنة وقعت هناك.
ورغم أن المدينة نجت من الدمار، إلا أنها لم تنج من الحزن، وكان نصيب نسيبة من هذا الحزن، ما جعل قلبها لا يجد سلواه إلا في محاولة تخفيفه ما استطاعت لذلك سبيلاً، ولأنها قادمة من عوالم الأدب والكتاب ودفتر الرسم، بدأت بالكتابة، ووجدت في فن القصة القصيرة وسيلتها الأفضل لنقل الوجع الذي كانت تعاينه يومياً في طرقات المدينة، خصوصاً عند الشريحة الأكثر هشاشة “الأطفال” بعد أن شاهدت بكل ثقل الحياة، مشهداً أكل قلبها وروحها، لطفل مرمي على الرصيف، فارق الحياة، دون أن يستطيع أحد إنقاذه أو دفنه، بسبب القنص، وأصدرت مجموعتان قصصيتان، “حروب صغيرة” و “حكايات”، وفيهما تصوير أدبي رفيع لأيام الحرب، ولما نتج عنها من بلاء وأمل أيضاً.
لكن نسيبة واقعية أيضاً، وتدرك أن الأدب “فتيلته” طويلة كما يقال، وضحايا الحرب من الأطفال، لا يحتملون أن يلمهم من وحشة اليتم، من يتأثر بما كتبت، فما كان منها عندما كانت في دمشق، بعد أن تم تهجيرها وأهل المدينة من قبل عصابات الإرهاب، وهي ترى للأطفال الذين طوحت بهم الحرب، يفترشون الحدائق والأرصفة، إلا المسارعة لمحاولة إنشاء ميتم في مدينة يبرود، ويكون خاصاً بالأطفال الذين فقدوا أسرهم، ومن كافة الجغرافية السورية.
عام 2014 قدمت نسيبة على رخصة لإنشاء الميتم في مدينة يبرود، وفي عام 2017 تحقق أملها، وبدأت بالعمل على جعله واقعاً، ورغم المعوقات الكثيرة التي واجهتها بداية، إلا أنها استطاعت أن تجعل ما حلمت فيه لليال طوال، ممكناً، وها هو الميتم الذي يتسع لـ قرابة الـ 50 طفلاً، ينهض بالحمل الثقيل الذي صمم له، ونسيبة التي أعطت وقتها كله لأطفالها القادمين من مختلف المحافظات السورية، تنسى في غمرة انشغالها بهم نفسها، معتبرة أنها وجدت الأمومة التي لم تتحقق حتى الآن في الواقع بهم، ينادونها ماما، وتناديهم أبنائي.
لم تكتف نسيبة بإقامة الميتم، لكنها تواصلت مع الجهات الحكومية التي تجاوبت معها وقدمت ما يلزم، خصوصاً من الناحية التعليمية، فمعظم أبناء نسيبة في الميتم، يتلقون تعليمهم في المدارس الحكومية، وهذا يثلج قلبها ويعيد إليها الثقة بأن الحياة مهما قست، لا بد ستحنو طالما سعى كل ذي قلب سليم ووجدان حي إلى ذلك، كما أن أهل المدينة فقيرهم قبل الغني، يساهم بما يقدر عليه لدعم هذا المكان، ولو كان بربطة خبز.
نسيبة اليوم أم لـ 26 طفلاً، 10 أولاد، و16 بنت، منهم الطفلة “سورية” تعتني بهم وكأنهم في بيتها، لا تشتكي ولا تكل ولا تتذمر، وكل مناها أن يحققوا ذواتهم، عل النجاح، ينسيهم قسوة ما مروا به، وهذا وحده ما يجعلها سعيدة بالجنة التي وعدت كل أم بها.