المقاومة تنتصر استراتيجياً
علي اليوسف
بعيداً عن الارتدادات المباشرة وغير المباشرة للحرب الإسرائيلية على غزة، ثمّة معطيات وإشارات مهمّة أرسلتها المقاومة أهم عناوينها تحقيق انتصار كبير في المجال الاستراتيجي، أي التأثير في الشارع الشعبي.
لقد نجحت المقاومة في خطة “الصبر الاستراتيجي”، واستطاعت إفقاد الكيان الصهيوني صبره وعقله، بل إرهاق أعصابه، وبالتالي جرّه إلى ما رسمته خطط المقاومة لجهة إظهار ضعفه الكبير في الحملة المعرفية، وهو ما يعتبر انتصاراً آخر للمقاومة إلى جانب صدمة “طوفان الأقصى”، والذي تجلّت صورته في فرض التهدئة المؤقتة وإدارة صفقة تبادل الأسرى التي أنكرتها قيادات الكيان الصهيوني وانقلبت عليها بعد أسبوع.
لقد أنست صدمة “طوفان الأقصى” الكيان الصهيوني أن للمقاومة جذوراً في الأرض، وأن لها مؤيدين على مساحة فلسطين والوطن العربي والعالم، وأن حجم التدمير والقتل والتهجير لا يلغي أن المقاومة تلاعبت بالكيان الصهيوني الذي اعتقد أنه قادر على “سحق” المقاومة في غزة، بل على العكس أظهرت المقاومة براعة تُسجّل لها في قيادة المعركة وإدارة ملف التفاوض وتبادل الأسرى والرهائن، ولعلّ لحظة خروج الأسرى الفلسطينيين من سجون الاحتلال ومظاهر الفرح الكبير الذي ساد أرجاء الضفة الغربية والقدس المحتلة، ليس إلا دليلاً على قوة الحاضنة الشعبية للمقاومة، وإنجازاً جديداً للمقاومة مقابل الفشل المعرفي للكيان الصهيوني الذي لم يستقبل أسراه بفرح وبمشاعر الانتصار أو الإنجاز، بل تم استقبالهم بصمت وبمشاعر مرتبكة، وهو ما يعكس الخسارة التي مني بها على المستوى السياسي بعد فشل العلميات العسكرية البرية في تحريرهم. فالرسائل التي سعى نتنياهو لترويجها أن “إسرائيل” حققت إنجازاً كبيراً في المفاوضات، هي ادّعاء بعيد عن الحقيقة، ولهذا السبب انقلب على التهدئة ليعود إلى دوامة القتل والتدمير وامتصاص الشارع الذي انقلب عليه وعلى حكومته المتطرفة.
صحيح أن التهدئة كُسرتْ، لكن الصفقة التي قادتها المقاومة بحنكة وحرفية عالية كسرت الاستعلاء الصهيوني، وأظهرت الفشل المعرفي لهذا الكيان بأن لا أحد يمكنه أن يلغي المقاومة كحركة فكرية وسياسية، حتى لو تمّ تدمير مؤسساتها في غزة، وفي كل منطقة محتلة، فالحرب استولدت الروح الفلسطينية الجديدة، وبتوقيع المقاومة، والعدوان لن يغيّر هذه الحقيقة، لأن المقاومة سواء كانت حماس أو الجهاد الإسلامي أو غيرهما فهي في النهاية حركات وطنية هدفها الأول والأساسي تحرير كامل فلسطين من الاحتلال الإسرائيلي، بما يشمل كل الأراضي المحتلة في فلسطين التاريخية، وليس فقط الأراضي التي احتلت عام 1967.
لقد منحت الحرب على غزة مكانة وطنية للمقاومة. واليوم، وفي ظل العدوان على غزة، لا مكان للاعتقاد بأنّ الحرب ونتائجها سوف تغيّر من هذه المكانة، وحتى إعادة غزة إلى المربع الأول ستلقي بظلال من الشك على ما إذا كان الكيان الصهيوني سيحقق هدفه في القضاء على المقاومة، فالمقاومة لم تطلق عملية “طوفان الأقصى” ضد الاحتلال الإسرائيلي لأنها تتوقع إحراز نصر عسكري، وهي تعلم مسبقاً حجم وطبيعة الردّ، خاصة بوجود يميني متطرف مثل نتنياهو على رأس الحكومة الإسرائيلية، بل لأن المقاومة أرادت إجبار “إسرائيل” والعالم على وضع حلّ للمأساة الفلسطينية، وفك الحصار المفروض على سكان غزة لعلمها المعرفي باستحالة إلحاق هزيمة نهائية بالمقاومة، لأن القضاء على المقاومة يتطلب القضاء على الفلسطينيين جميعاً، وبالتالي الطريقة الوحيدة للانتصار على المقاومة هو تقبل الهزيمة، وهو ما يعني الاعتراف بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.