4 تريليونات زيادة الكتلة النقدية الورقية عام 2023.. سياساتنا النقدية والمصرفية.. قرارات خيَّبتْ حساباتنا الاقتصادية والمالية.. وفاقمت من “التضخم والظل” والمضاربة أهم الاستثمارات حاليا!
البعث الأسبوعية- قسيم دحدل
إلى أي مدى استطاعت سياساتنا النقدية والمصرفية، الحفاظ على قيمة ومكانة عملتنا الوطنية، لتؤدي دورها الاقتصادي بشكل كبير وأساسي، استناداً للنظريات النقدية والنقدية الجديدة، التي أصبحت تركز على النقد كأساس أول لأية نهضة اقتصادية، بعد أن أصبحت النقود تعامل كأصل مالي هام قادر بالإضافة إلى القيام بوظائفه الأساسية: (تبادل- قياس -ادخار – تمويل)، على تحقيق مزايا وأهداف متناقضة في آن واحد أهمها: استقرار الأسعار، واستقرار سعر الصرف، ورفع معدلات النمو الاقتصادي، مع دورها الهام في الاقتصاد الدولي بشقيه السلعي: (الميزان التجاري)، والمالي: (التحويلات المالية وجذب أو هجرة الأموال).
هذا وغيره من التساؤلات، وضعها الدكتور رازي مُحي الدين عضو اتحاد الاقتصاديين العرب، على طاولة “جمعية العلوم الاقتصادية”، مفنداً بالأرقام الرسمية المتوفرة وبالتقديرية لعدم توفر البيانات الرسمية، ما بلغته ليرتنا من تراجعات كبيرة، منذ نحو سنة وخمسة أشهر فقط، حيث أدت ونتيجة لتلك السياسات للوصول إلى معدلات تضخم كبيرة، وإلى تراجع في سعر صرفها من سعر 3700 لكل دولار إلى نحو 14500 في السوق السوداء، وما كان لذلك من أثر سلبي على واقعها ووظائفها الحالية وتراجع دورها الاقتصادي، متطرقاً إلى أهم السياسات النقدية والمصرفية في الآونة الأخيرة (قرارات مجلس النقد والتسليف، وقرارات لجنة إدارة مصرف سورية المركزي، في الثلاثة أعوام الأخيرة)، والتي كانت سبباً لهذه النتائج، ليصل في الختام إلى عدد من المقترحات لتعزيز مكانة الليرة السورية ووظائفها وأثرها الاقتصادي.
تشخيص سريري
ونظرا لأهمية ما خلص إليه محي الدين سنتبع أسلوب “الخطف خلفاً” في تناولنا لهذا الملف، لنبدأ بالنتائج الـ6 التي وصل إليها من ” تشخيصه السريري” لتلك السياسات، التي لم تكن على قدر المطلوب من إبداع الحلول للمشكلات “العويصة” التي واجهت وتواجه نقدنا واقتصادنا!
أولى النتائج تأكيده أن سياستنا النقدية، لم تحقق الأهداف المنوطة بها بالحفاظ على الأسعار وتثبيت سعر الصرف وتخفيض العجز التجاري وتعزيز قوة الليرة وجذب الاستثمارات، كما أكد في ثانيها، أن تمويل الاستيراد عن طريق المنصة ساهم بشكل كبير في زيادة التضخم وهروب الأموال وفقدان الثقة بالليرة، بينما لفت في ثالثها، إلى أن استخدام أدوات غير اقتصادية (العقوبات القانونية المبالغ بها على تداول الدولار) لمعالجة مشكلة اقتصادية، هي وسيلة غير فعالة، وأدت لمزيد من فقدان الثقة بالليرة، وبناء عليه يجب استبدالها بأدوات اقتصادية فعالة للمعالجة.
وفي رابع النتائج، أكد أيضاً على أن سياسة التمويل بالعجز وسياسة إجبار المواطنين والاقتصاد النظامي على الإيداع بالليرة السورية بفوائد منخفضة، قد ساهما بشكل مباشر وغير مباشر في زيادة الكتلة النقدية في سورية، وبالتالي بالتضخم، وأشار في رابعها، إلى أن غياب أية أدوات تحفيزية أو تشجيعية للاقتصاد النظامي، جعله يدفع الثمن الأكبر لتراجع سعر صرف الليرة، ليبين في خامسها وجود عمليات مضاربة كبيرة على الليرة من قبل اقتصاد الظل، في مقابل عدم وجود أية متابعة أو تقييد لرفع الفوائد على القروض بشكل يعادل تغير سعر الصرف أو التضخم، أو ربط التمويل ببيانات المالية الحكومية الرسمية، لكي يتم ضمان توجيه التمويلات بأسعار فائدة سالبة للاقتصاد الحقيقي.
ثمانية مقترحات
في ضوء ما سبق نتائج خلص مُحي الدين إلى ثمانية من المقترحات، رأى في تطبيقها أملا بإصلاح وتصحيح سياستنا النقدية والمالية، مبتدءاَ بإلغاء منصة تمويل الاستيراد واستبدالها بأدوات اقتصادية فعالة مثل: رفع رسوم الاستيراد، حيث أن سعر الدولار الجمركي حاليا أقل من سعر الصرف بالسوق السوداء، علما أنه من المنطق رفع رسوم الاستيراد لتخفيض المستوردات، مع ربط المستوردات بالتصدير والسماح لبيع دولار التصدير، أو توفر حساب دولار للمستورد خارج سورية، ولمن يرغب بالدخول إلى المنصة، أن يدخل بحيث لا تكون المنصة إلزامية.
ليطالب في ثاني مقترحاته، بتحرير دولار التصدير من أي قيود، بحيث يحق للمصدر أن يبيع دولار التصدير لأي مستورد آخر، وعدم إلزام المصدر بتحويل نصف صادراته إلى الليرة، حيث أدى ذلك لارتفاع تكاليف التصدير؛ وطالب في ثالثها برفع الفوائد على سندات الخزينة من أجل ضمان الاكتتاب عليها وزيادة الاعتماد على السندات لتمويل العجز من أجل سحب السيولة من القطاع المصرفي.
كما طالب في رابعها بإلغاء كافة القيود التي أدت لتقييد دوران الليرة سواء من تأمينات نقدية وسحوبات وغيرها من الأدوات الإدارية غير الاقتصادية، واستبدالها برفع أسعار الفوائد على الودائع، أو إصدار أنواع أخرى من الشهادات الإيداعية القابلة للتداول أو إصدار وديعة ليرة دولار وغيرها من الأدوات التي تعيد الثقة لليرة السورية.
ولأن المشكلة التمويلية في سورية ليست في نقص الدولار بل في فقدان الثقة بالجهاز المصرفي وبالليرة السورية، طالب محي الدين في خامس مقترحاته، بإلغاء القيود واستبدالها بفتح وديعة دولار بفائدة تشبه فائدة ودائع الدولار العالمية قرابة 6%، وتغيير المنهج في السياسة النقدية المصرفية من فقدان الثقة المتبادلة وتقييد الإجراءات إلى بناء الثقة والتشجيع على التعامل.
واقترح في سادسها، تشجيع المصارف على استخدام فوائض سيولتها بتشكيل محافظ استثمارية من خلال إعفاء أرباح إعادة تقييم الأسهم – نتيجة تراجع سعر الصرف – من الضريبة ، حيث أن الاقتصاد النظامي لا يستطيع شراء أسهم بالظروف الحالية، لأن أي تغير بسعر السهم يعتبر ربحا حقيقيا ويتم دفع ضرائب عليه، علما أنه ربح وهمي نتيجة تراجع الليرة.
وأكد في سابعها، على وجوب إيجاد معاملة عادلة للاقتصاد النظامي، بإعفائه من قيمة الأرباح الوهمية، نتيجة تراجع لليرة، وإعطاءه فوائد عالية على الودائع أو تسهيل عمليات التمويل له.
ليختم في ثامن مقترحاته، تشديده على وجوب ضبط اقتصاد الظل الذي يضارب على الليرة السورية، ويأخذ قروض بكميات كبيرة أكثر بكثير من ميزانياته الحكومية، ويستفيد من تراجع الليرة، وبقية مكونات المجتمع تدفع هذا الثمن (رواتب وأجور واقتصاد نظامي)؛ ضبطه إما بربط تمويلاته بقوائمه الحكومية وأي زيادة بالتمويل عن احتياجه وفق بياناته الرسمية المقدمة يتم التعامل معها بأحد الطرق الثلاث وأولها قرض ليرة دولار: أي عبر ربط القرض ليرة بسعر الدولار، وهذا يعني أن لا يأخذ القرض إلا من يحتاج للتمويل وليس المضاربة؛ وثانيها رفع ربحه الضريبي بما يتوافق مع أرقام تمويلاته الرسمية، الأمر الذي نشجع به الشركات على تقديم بياناتها الحقيقية لأنها ستستفيد من القروض بالليرة؛ وثالثها مضاعفة سعر الفائدة.
للأسف تخسر!
إن الحرب التي شهدتها سورية والعقوبات الاقتصادية، وعدم قدرة أغلب الحكومات المتعاقبة على إيجاد حلول تتناسب مع احتياجات المجتمع السوري الاقتصادية، توازيا مع عدم وضوح استراتيجية السياسات النقدية والمصرفية، أدى إلى تراجع مكانة الليرة في الاقتصاد السوري، حيث لم تعد تقوم – تقريبا – بأغلب وظائف النقد المطلوبة منها، إلاَّ في وظيفة واحدة وبشكل جزئي ومشروط..، فقد خسرت مكانها ودورها في أن تكون أداة قياس، إذ أن أغلب عمليات التسعير حاليا في سورية تتم وفق سعر صرف الدولار بالسوق السوداء وبشكل شبه فوري، وفي بعض الأحيان بشكل مستبق (بمعنى أن التجار يتحوطون مسبقا لتراجع الليرة ويقومون بتسعير السلع على دولار أعلى من السوق السوداء مثلا بسعر 16000 أو 20000 حسب كل سلعة)، مستفيدين من غياب التنافس في السوق السورية نتيجة ضعف الإنتاج وتراجع الاستثمار وتقييد الاستيراد، حيث تشمل عمليات التسعير بالدولار أيضا كثيرا من السلع والخدمات التي تسيطر عليها الحكومة (مثل البنزين والمازوت والوقود وإصدار جوازات السفر، وكذلك أسعار أغلب السلع في المؤسسات الاستهلاكية تقارب أسعار في السوق)، إضافة إلى تسعير السلع ذات الإنتاج المحلي التي لا تتأثر بالاستيراد لكونها ذات فرص تصديرية عالية، مع التنويه إلى أن السلع والخدمات التي لا يتم تسعيرها وفق الدولار مثل الصحة والتعليم، أدى ذلك لتراجع الجودة وهجرة الكفاءات وضعف التنافسية للأدوية واضطرت الحكومة أن تستجيب لرفع أجور السلع، وأما الخدمات فلم ترفعها، وهذا الدور لا يمكن استعادته إلا بأدوات اقتصادية ونقدية فعالة سنذكر بعضها لاحقا.
بشكل جزئي..!
لا تزال الليرة الأداة الرئيسة بالتداول في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة، وأما في المناطق السورية الأخرى (القامشلي وإدلب وبعض المناطق الأخرى) فإن الليرة للأسف خرجت تقريبا من التداول، ويعود سبب استمرار الليرة بوظيفتها كأداة تداول جزئيا، القوانين السورية المتشددة القاضية بحبس وسجن كل من يتداول بغير الليرة، وهذا يعطي مؤشر خطير جدا وهو أن الليرة ونتيجة لضعف السياسة النقدية، خسرت أغلب وظائفها وأن الوظيفة التي مازالت تقوم بها جزئيا هي بسبب العقوبات المتشددة، الأمر الذي أدى في كثير من الأحيان لدور عكسي، بعدم الثقة بالليرة، وساهم بهروب كثير من الأموال للخارج.
لم تعد..للادخار..!
رغم ارتفاع العوائد على الليرة ووصوله ما بين 10 و 15%، إلا أنها لا تزال أقل بكثير من معدلات التضخم التي تعادل قرابة 300% لعام 2023 و100% لعام 2022 وأكثر من 30% سنويا في السنوات السابقة، ما أدى لتراجع دور الليرة كوظيفة ادخار، وأن الجهات الحالية التي تدخر بالليرة هي الجهات العامة والقطاع الخاص النظامي (الشركات المساهمة والمشتركة والجامعات الخاصة ومؤسسات التأمينات والمعاشات وصناديق التقاعد)، واحتفاظ مثل هذه المؤسسات النظامية بأموالها بالليرة السورية ضمن النظام المصرفي ساهم بأمرين اثنين، الأول: تـآكل رؤوس أموال هذه المؤسسات الحقيقية، والثاني: قدرة المصارف على خلق النقود وتوليد نقود إضافية، ساهم بإضعاف الليرة السورية بسبب التوسع الكبير بعمليات الإقراض وزيادة عرض النقود.
وكأداة تمويل
إن تقييد عمليات تمويل رأس المال العامل، وشبه توقف عمليات الاستثمار الحقيقي نتيجة تراجع القوة الشرائية الحاد، مع بقاء معدل الفائدة الحقيقي سالب على القروض، أدى لظهور (في اقتصاد الظل) استثمار جديد هو المضاربة على الليرة بالاقتراض المصرفي، حيث يعتبر الاقتراض بالليرة السورية وقلبه إلى دولار، أهم استثمار رابح في السوق السورية حاليا، وهذه الأداة للأسف لم يتم ربطها بالاقتصاد المنظم (حيث يكون التمويل متوافق مع القوائم المالية الحقيقية المقدمة لوزارة المالية وبالتالي هذا الربح يتم دفع الضرائب عليه)، بل تم استخدامها بشكل عشوائي لدعم اقتصاد الظل، حيث تبلغ الفوائد على القروض حاليا قرابة 15% والتضخم قرابة 300%، وبالتالي كل قرض يحقق ربح أكثر من 200% سنويا، وهذا الأمر الخطير جدا عندما تصبح مصلحة اقتصاد الظل هو انهيار الليرة السورية لكي يحقق أرباح مضاربة، مع التنويه إلى أن مصلحة الاقتصاد النظامي دائما وأبدا، تكمن في استقرار الليرة لسببين، الأول: إن ادخاراته بالليرة، والثاني إن أي انهيار سيدفع ثمنه بسبب التضخم وتراجع القوة الشرائية، وأما اقتصاد الظل القائم على التهريب والاقتراض والفساد والمحسوبية والرشاوي، فقد استفاد بشكل كبير في السنوات الماضية !.
قرارات بنتائج عكسية
من تحليل أهم 25 قرار من القرارات التي اتخذها مجلس النقد والتسليف ولجنة مصرف سورية المركزي في الآونة الأخيرة، نجد أنها مرتبطة بهدفين أساسين، الأول: تشديد المركزية الحكومية لعمليات الاستيراد والتصدير من خلال القرارات المرتبطة بالمنصة وتمويل الاستيراد، والثاني: زيادة الودائع وسيولة البنوك من خلال إجبار المتعاملين والمواطنين على التعامل عن طريق البنوك بمختلف العمليات التجارية والبيعية مع تقييد عمليات السحب (بيع العقارات والسيارات، الحوالات، تحويل جزء من قيمة الصادرات، بطاقات الدفع الالكتروني، دفع الفواتير عن طريق البنوك) وترافق هذا مع قرارات كثيرة من وزارة المالية تمثلت بتخفيض حاد للدعم الحكومي وزيادات كبيرة في الضرائب والرسوم وإصدار بعض سندات الخزينة لتمويل جزء من عجز الموازنة.
وهنا يطرح محي الدين تساؤلين اثنين: الأول هل أدت عمليات تقييد الاستيراد والتصدير لتحقيق أهدافها المتمثلة بمحاربة التضخم وتخفيض العجز التجاري واستقرار سعر الصرف، أم أنه حقق نتائج عكسية تماما ؟. والسؤال الثاني: هل أدى سحب السيولة من السوق إلى تجفيف منابع المضاربة على الليرة السورية، أم أدى لانتقال الأموال من أصحابها الحقيقيين في الاقتصاد النظامي إلى الأفراد في اقتصاد الظل والمضاربة والتهريب؟.
الجواب وللأسف لا، ومن حيثيات ما أوردنا – وهو بعض من كل ما أورده الباحث – يُستدل على أن حسابات حقل سياساتنا النقدية والمصرفية لم تتطابق مع بيادرها ولو في أفل التقديرات الاقتصادية والمالية!، ولعل مؤشر زيادة الكتلة النقدية الورقية الجديدة لهذا العام 2023 والمقدرة بأنها تعادل نحو 4 تريليون ليرة – على سبيل المثال لا الحصر- والتي تعني زيادة مماثلة أخرى بالحسابات البنكية الجارية لتصبح الزيادة النقدية قرابة 8 تريليون ليرة، كاف للدلالة على حجم التضخم (زيادة بعرض النقود تعادل زيادة التضخم)، وبالتالي الحكم على سياستنا النقدية والمصرفية.
Qassim1965@gmail.com