حرب “إسرائيل” على “أونروا”
عناية ناصر
لم يكن لدى الفلسطينيين المعرّضين للخطر بشكل يومي والمعذبين في غزة سوى القليل من الوقت للاحتفال بقرار محكمة العدل الدولية الصادر في 26 كانون الثاني، حيث تلقّت “إسرائيل” من خلال القضية التي رفعتها جنوب إفريقيا، أخباراً غير مرغوب فيها مفادها أنه يتعيّن عليها، من بين التزامات أخرى، ضمان الامتثال لاتفاقية الأمم المتحدة بشأن الإبادة الجماعية، بما في ذلك قوات كيانها، ومنع “التحريض المباشر والعلني على الإبادة الجماعية” ضد السكان الفلسطينيين والسماح بالخدمات الأساسية والمساعدات الإنسانية لقطاع غزة.
وفي غضون ساعات، وجدت “إسرائيل”، التي أصيبت بالصدمة والغضب من هيئة وصفها مسؤولوها بأنها معادية للسامية وتتعاطف مع الدعاية الفلسطينية، ذريعة للتباهي بالحكم، حيث اتهم جهاز المخابرات الإسرائيلي الشين بيت 12 موظفاً، لم يتم العثور عليهم، من وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، وهي الوكالة المسؤولة عن توزيع المساعدات في غزة، بالتورّط في الهجمات التي شنّتها المقاومة الفلسطينية في 7 تشرين الأول. وكانت استجابة الأونروا سريعة، حيث تم إنهاء العقود، وبدأ تحقيق كامل في الادّعاءات الموجهة ضد المنظمة. ووعد المفوّض العام للوكالة، فيليب لازاريني، بأن “أي موظف في الأونروا متورّط في أعمال إرهابية سيحاسب، بما في ذلك الملاحقة الجنائية”.
ولم تكتفِ “إسرائيل” بذلك، بل شنّت حملتها بشكل عاصف ضد الوكالة على أمل تخليص غزة من وكالة الأمم المتحدة التي احتقرتها لسنوات. و”الأونروا”، في نهاية المطاف، تذكير جيد بمعاناة الفلسطينيين وطردهم وحرمانهم، ووجودها نتيجة مباشرة للسياسة الخارجية الإسرائيلية. وكان وزير خارجية الكيان إسرائيل كاتس حاداً في إظهار كراهية “إسرائيل” لـ”الأونروا”، وذلك من خلال قوله مؤخراً: “لقد حذرنا منذ سنوات بأن “الأونروا” تطيل أمد قضية اللاجئين، وتعرقل السلام، وتعمل كذراع مدني للمقاومة الفلسطينية في غزة”، متّهماً موظفيها بأنهم يحملون أيديولوجياتٍ قاتلة، ويساعدون في الأنشطة الإرهابية. وكان كاتس، بشكل مخادع وشيطاني، يرفض مشروع المساعدات برمّته من خلال أحد منافذ الأمم المتحدة باعتباره امتداداً إرهابياً، وليس نتاجاً مروّعاً لحرب “إسرائيل” الهمجية، وكان يطالب بالإشراف على شؤون المساعدات.
لقد شعرت القوى، التي يرتبط العديد منها بعلاقات عسكرية مع “إسرائيل” وتتباطأ في محاسبة الكيان الصهيوني في حملته الوحشية على غزة، بالارتياح بسبب تشتيت الانتباه. وبدلاً من تقييم تصديرها الخاص للأسلحة إلى “إسرائيل”، ظهر منح التراخيص في سوق الأسلحة في انتهاك صارخ لحقوق الإنسان وتسهيل لارتكاب جرائم ضد الإنسانية، ذريعة للاستمرار وإطالة أمد عمليات نقل الأسلحة والمساعدة إلى “إسرائيل”. وفي غضون ساعات، أضافت تسع ولايات أسماءها إلى القائمة التي علقت المساعدات المخصّصة لـ”الأونروا”، كما سارعت أستراليا ومعها الولايات المتحدة وكندا إلى المنصّة لإدانتها وتجميد تمويلها، ومن ثم تبعتها المملكة المتحدة وألمانيا وإيطاليا وهولندا وسويسرا وفنلندا.
وكانت وزارة الخارجية الأمريكية قد “أوقفت التمويل الإضافي”، بينما اعتبرت وزيرة الخارجية الأسترالية، بيني وونغ، التي كانت لا تكل أبداً من الإشادة بالقانون الدولي وخصائصه المقدسة للغاية، وقبولها لدور “الأونروا” في القيام بالعمل الحيوي المنقذ للحياة، وتوفير الخدمات الأساسية في غزة مباشرة لأولئك الذين يحتاجون إليها، أن تعليق التمويل معقول تماماً.
وكان المفوّض العام للوكالة قد عدّ تعليق دول عدة تمويلها للوكالة والسرعة التي توقف بها التمويل أمراً صادماً. وأضاف: إن “هذه القرارات تهدّد عملنا الإنساني المستمر في جميع أنحاء المنطقة، بما في ذلك قطاع غزة بشكل خاص”، وأكد أنه لم يكن الفلسطينيون في قطاع غزة بحاجة إلى هذا العقاب الجماعي. ومن الممكن أن ننظر إلى هذا الإجراء على أنه هستيري، وذلك نظراً لتشويه سمعة 12 فرداً من بين مجموعة تتألف من نحو 30 ألف عضو. وقال يوهان صوفي، المحامي والمدير السابق للمكتب القانوني للوكالة في غزة، لوكالة “فرانس برس”: “إن فرض عقوبات على “الأونروا”، التي لا تكاد تحافظ على حياة سكان غزة بالكامل، بسبب المسؤولية المزعومة لعدد قليل من الموظفين، هو أمر غير مقبول، وهو بمنزلة عقاب جماعي لسكان غزة الذين يعيشون في ظروف كارثية”.
وأشار عضو مجلس الشيوخ عن حزب الخضر الأسترالي والمتحدث باسم وزارة الدفاع، السيناتور ديفيد شوبريدج، إلى التطوّر الغريب الذي نتج عن خنق المساعدات الأخيرة لسكان غزة المحاصرين، وقال: “إن التوقف المؤقت الوحيد الذي تمكّنت الوزيرة وونغ من تحقيقه ليس القصف أو القتل، أو حتى تصدير الأسلحة، بل تقديم المساعدة للفلسطينيين”.
بالنسبة لـ”إسرائيل”، يمكن أن يتحوّل التركيز الآن مرة أخرى إلى مواصلة الحرب ضد الفلسطينيين، إضافة إلى الاستهزاء بالقانون الدولي وتجاهله دون مبالاة من خلال مبادئ القوة. ومن المفارقات الصارخة أن التدابير المؤقتة التي حدّدها أمر محكمة العدل الدولية، والتي تتضمّن زيادة المساعدات الإنسانية لغزة، يتم إحباطها من الموقعين على اتفاقية الأمم المتحدة للإبادة الجماعية.
إن نظام العقاب الجماعي الذي فرضته سياسة الخنق القاتلة التي تنتهجها “إسرائيل”، والذي أثار قلق الفريق القانوني في جنوب إفريقيا، من الممكن أن يستمر الآن، لأن وجود الأونروا في حقيقته هو أكبر دليل على الحالة القانونية التي يعيشها الفلسطينيون تحت الاحتلال.