“المعرّي بين الإرث والأثر”.. عقيدته ومرجعيته وآراؤه
ملده شويكاني
فسقيا لكأس من فم مثل خاتم
من الدر لم يهمم بتقبيله خال
كأن الخزامى جمعت لك حلة
عليك بها في اللون والطيب سريال
لم يكره المعري المرأة كما أشيع عنه، ففي تغزله بها ما يشير إلى طلبه المرأة، وحرمانه منها ليس كرهاً بها وإنما بعداً عن الحياة، واتخاذه موقفاً بعدم رفد المجتمع بأفراد يزيدون في فساده، لذلك عاتب والده وأوصى بأن يكتب على قبره:
هذا جناه أبي عليّ
وما جنيتُ على أحد
هذا ما كتبه محمد خالد عمر في كتابه “المعري بين الإرث والأثر- أو أبوة متجددة” الصادر عن اتحاد الكتّاب العرب- دار سويد- المبنيّ على دراسة تحليلية نقدية قاربت ثلاثمئة وعشرين صفحة من القطع الكبير، استحضر فيها شواهد من كتب المعري وأقواله، ومن آراء الباحثين وعلماء اللغة وتفنيدها، إضافة إلى استنباط مواقف المعري الشاعر والفيلسوف والمفكر، كما ركز على أعداء المعري الذين انطلقوا من التشكيك بعقيدته، وعلى آرائه بسلوكيات العامة والحياة.
مهرجان أبي العلاء المعري
فبدأ الكاتب بتسلسل توثيقي ترتيبي لسيرته من علاقته بالمكان من مدينة معرة النعمان بتمهيد عرّف به بمعرة النعمان مهد أبي العلاء المعري التنوخي، وفيها ضريحه، إذ وري ثراها في بيته الذي تحوّل إلى مسجد، وجدّد بناؤه عام 1938، حينما كان كاظم الداغستاني قائم مقام مدينة النعمان، وباقتراح من طه حسين عام 1958م، وتحول إلى مركز ثقافي في عام 1960، وصار من أهم معالم المعرة في العصر الحديث. ودعا الكاتب إلى إحياء مهرجان أبي العلاء بما يليق بعظمة هذا العملاق ومكانته اللغوية والفلسفية.
كتاب اللزوميات
وأشار إلى أنه اعتمد على كتاب اللزوميات الذي جمع جلّ فلسفة المعري، ولم يكن كتاباً عابراً ولا تعبيراً عن ردّة فعل على الفساد والإجرام والنفاق السائد، وإنما كان مرافعة فلسفية أخلاقية قيمية تفضح أي سلوك خسيس، واستحضر رأي رفيق جويجاتي باللزوميات.. إن البديع في اللزوميات كان رمزاً يحمل دلالات لرفض الواقع وإنكاره، فالطباق يرمز إلى ما نشاهده في الحياة من تناقض، والجناس لما نجده من تشابه في المظهر واختلاف في الجوهر، كما ألحق المعلومات بصور بوابة البناء على الضريح، وواجهة المحراب الداخلي الذي تحوّل إلى غرف.
حضارات متتالية
وتميّز الباب الأول “عن العلاقة بين المعري والمعرة” بجمالية السرد التاريخي بشكل خاص لمنطقة المعرة التي كانت مدينة مهمّة، ومركز منطقة إدارياً وهي جزء من محافظة إدلب، يتبعها مئة وسبع وخمسون قرية ومزرعة، وقد شهدت حضارات متتابعة من العربية القديمة إلى الهللينية البيزنطية إلى الرومانية ثم العربية بعد الإسلام تحت رايات الدول المتباينة المتداخلة –العباسية والحمدانية والفاطمية والمرداسية- وما تزال تحتفظ بكثير من الآثار. وبحث الكاتب بمسألة نسبة المعرة إلى النعمان مستحضراً ما جاء في معجم البلدان لياقوت الحموي، والذي أظنه أن نسبتها تعود إلى النعمان بن عدي بن غطفان التنوخي الملقب بالساطع، وتطرق إلى وصفها بكتب التاريخ وعند بعض الرحالة، ثم ذكر آثارها والأضرحة والمقامات الموجودة فيها، إضافة إلى خاناتها وقلعتها المقامة على قاعدة كلسية طبيعية مرتفعة قليلاً عن الأرض في الجهة الشمالية الغربية، مساحتها 2500م2.
نشأته وبيئته
ثم تابع عن نشأة المعري وبيئته من خلال قراءاته كتب التراجم ومعجم البلدان، فهو ابن أسرة علم محترمة أصيب بالجدري فذهب ببصره وكان في الرابعة من عمره سنة سبع وستين وثلاثمئة، تعلم في حلب عند أخواله، وكان قصير القامة نحيل الجسد مشوّه الوجه، قال الشعر في الحادية عشرة من عمره، ثم رحل إلى بغداد سنة ثمان وتسعين وثلاثمئة، ثم عاد إلى بلده ولزم منزله حتى مات سنة تسع وأربعين وأربعمئة.
تفكيره بالانتحار وتراجعه
ويعود صوت الكاتب لتحليل البيئة التي نشأ بها المعري، فهو ابن أسرة تنوخية عربية مرموقة يصل نسبها إلى تيم الله، واشتهرت بالشعر والأدب والقضاة، وأخوه الأكبر كان شاعراً وكذلك الأصغر عبد الواحد بن عبد الله أبو الهيثم، الذي قال في الشمعة:
وذات لون كلوني في تغيّره
وأدمع كدموعي في تحدرها
ومن عائلته إلى وضعه الصحي الذي أثر في صحته النفسية فكاد يلحق الضرر بنفسه، وكاد يقدم على الانتحار لكنه تراجع بقوله: “نفس تأمرني بذلك ونفس تنهاني، وقال في رسالة الغفران قد كدتُ ألحق برهط العدم من غير الأسف ولا الندم، ولكنما أرهب قدومي على الجبار”.
عصر الانتصارات
ثم توقف الكاتب عند عصر المعري الذي اتسم بالتشاؤم وبالانتصارات معاً، إلا أنه عصر انتصار النثر على الشعر وعصر ارتقاء الشعر ونهوض الفكر ونشاط الترجمة وعصر علم الكلام وعصر الفقه والتشريع والتصوف في العصر العباسي عصر الصعود السياسي والإداري.
الرأفة بالضعفاء
وتذكر الكتب التاريخية بأنه كان للمعري كتبة كثر يكتبون عنه ما يريد أن يملي به إلى الناس من نظم وتصانيف ونثر، أما سلوكه فكان متفرداً في فهمه الذي يترجمه إلى سلوك، ومتفرداً بانسجامه مع ذاته، فكان لساناً وعقلاً وقلباً وحدة كاملة في تذليل عوائق الحياة، وحضّ في شعره على الرأفة بالعبيد والضعيف واليتيم والأعمى، فقال:
إذا كسر العبد الإناء فعدّه
أذاة له إن الإناء إلى كسر
عاش المعري إلى أن أصبح شيخاً كبيراً، ولم يفقد شيئاً من ذاكرته وعطاءاته، وأسلم الروح يوم الجمعة في 1057م.
قرار الاعتصام
وفي الباب الثاني “أبو العلاء المعري من يكون” استفاض بالحديث عن مكانة المعري الشاعر والفيلسوف، أما الباب الثالث فكان الأكثر تشويقاً لارتباطه بقرار الاعتصام وسجنه الخاص ولزوم بيته.
موقفه من الأديان
وتابع حتى الباب الخامس بتبويب يفصّل فيه عقيدة المعري ومرجعيته والإيمان بالدين الإسلامي، وموقفه من الأديان والعبادة في الدين الإسلامي، بما يتعلق بفريضة الزكاة والحج، ودعوته إلى العدل وموقفه من الخمرة، التي عدّها باب كل بلية:
لو كانت الخمر حلاً ما سمحت بها
لنفسي الدهر لا سراً ولا علنا
فليغفر الله كم تطغى مآرينا
وربنا قد أحلّ الطيبات لنا
مذهبه الفلسفي الفاطمي
يرى المعري أن المرأة أحد أعمدة بناء الحياة البشرية والإنسانية، وقد ظلمه الدارسون عندما رأوا أن موقفه من الزواج هو الامتناع عن الحياة ومحاربة للسنة الشريفة والسنية الكونية، وإنما هذا الموقف نابع من فلسفته كما يقول مارون عبود “تعامل مع المرأة من مذهبه الفلسفي الفاطمي”.
أعداء المعري
ليصل في خاتمة الكتاب إلى أعداء المعري الذين انطلقوا من التشكيك في عقيدته لأن فهمه للعقيدة المخالف لفهمهم أنبت مرجعيته الأخلاقية، التي هدّد فيها عقيدتهم المبرمجة على تأمين مصالحهم، فأخذوا يجيشون العامة عليه، ورموه بالإلحاد، وانقسموا إلى قسمين: القسم الأول راحوا يدافعون عن مكاسبهم ويفهمون الآخرين أن دينهم مهدّد من المعري، أما القسم الثاني فعادوا المعري لأن فهمهم السطحي لم يوصلهم إلى ما رمى إليه هذا الرجل، فكانت نظرتهم قاصرة عن متابعة المعري في تجلياته وهؤلاء هم العامة، الذين قادتهم السلطة الدينية وجيشتهم ضده.
كما أفرد الكاتب بعض الصفحات لبعض معالم مدينة المعرة ولوحات من المتحف، منها خان مراد باشا متحف المعرة، وجامع المعرة الكبير وبعض اللوحات الجدارية لرسومات متعدّدة.