د.عفاف يحيى الشب: التوثيق التاريخي ليس مهمة الدراما
تقديراً لكتاباتها ولحضورها الإعلامي والمجتمعي في سورية نصَّبها البرلمان الدولي لعلماء التنمية البشرية مؤخراً نائباً فيه، وهي تؤكد أن هذا المنصب جاء تتويجاً لأفكارها البنّاءة واجتهاداتها وعملها في مجتمعها السوري الذي تنتمي إليه قلباً وروحاً، ولاسيما ما يتعلق بكتاباتها عن المرأة التي تشكل نصف المجتمع والتي استجرَّتها الحرب على سورية إلى مواقع لا تحسد عليها، وعن الأطفال الذين شردتهم الحرب وأصبحوا بلا مأوى ولا أهل ولا مدارس.
المستنقعات البصرية الخطرة
وكمستشارة باللجنة الاستشارية العليا للدراما وانطلاقاً من قناعتها بأهمية الدراما السورية وما تقدمه من مقولات، وعلى الرغم من اهتماماتها الكتابية الكثيرة فقد انصبت معظم أولوياتها مؤخراً على الدراما، مؤكدة أن أي نقد وجِّهته لها لا يعني مهاجمتها بل ينبع من إيمانها بأنها مخزون الأمة الثقافي والاجتماعي والتاريخي والوطني والأخلاقي والحاضنة الفنية الكبيرة للإبداع والعطاء الجاد، ولأن الدراما بالنسبة إليها قضية هامة تفاقم اهتمامها بهذا المنتج الفني الثقافي، خاصة وأن أعمال الموسم الرمضاني متابَعة وتقوم بدور الملقن بالنسبة للمتلقي، وبالتالي فإن لم تكن على السوية المطلوبة فمن المؤكد أنه سيحدث خللاً كبيراً وفق ما تضخه بعض الأعمال من أفكار جريئة جداً تخترق كل الحواجز الوجدانية، مؤكدة أن الحرب على سورية والفكر الذي صدِّر إلينا من الخارج يريد تشتيت مخزوناتنا الإنسانية، وربما في هذه المناخات قد تساهم بعض أعمال الدراما التي يراد منها إرضاء السوق العربية في زعزعة البناء الفكري لأبناء مجتمعنا في الوقت الذي نحتاج فيه إلى مساحات من التنوير تضيء العقول حتى نستطيع التصدي لما يريد الآخرون أخذنا إليه.. من هنا فلا يجوز من وجهة نظرها الخاصة أن تتناول أعمالنا الدرامية قضايا الخيانة عند النساء وتعاطي الشباب السوري للمخدرات، والتعامل مع بعض مسلسلات قضايا الدعارة بشكل كبير ومبالغ به خوفاً من تشويه صورة المجتمع السوري.. إن هذا مرفوض كلياً برأيها مع أزمة حملت عناوين خطيرة, مبينة أنها ليست من أصحاب نظرية أن الواقع قد يحمل هذه الحالات حيث الشرفاء هم النخبة الأكثر والأشد اهتماماً بمصير الأمة ومستقبل الأجيال “فلماذا لا نتناول مسيرتهم مثلاً؟” وبالتالي ترفض د.عفاف زجَّ أطفالنا ومراهقينا في تلك المستنقعات البصرية السامة وهم في غرف نومهم ومعيشتهم بهدف تشويه أفكارهم وأخلاقهم قبيل الانخراط في المجتمع الكبير.
مهمة السينما
وحول دراما الحرب أو الأزمة ترى الناقدة د. عفاف أنه ليس مطلوباً من الدراما تناول أحداث الحرب بكثافتها وبوقائعها المؤلمة، لأن الدراما ليست مهمتها توثيقية محضة حيث التوثيق التاريخي مهمة السينما، وهذا ما نراه في قصص الحروب العالمية، وتأسف لأن السينما السورية مازالت حتى الآن بعيدة عن أفلام التوثيق لتلك الحرب الشرسة، وعليه فإن الدراما من الممكن أن تتناول مواضيع من صلب الأزمة، لكن من جوانب أخرى حيث كان عليها أن تتحدث عن انتشار ظاهرة الزواج العرفي والقصّر أيام الحرب، وازدياد نسبة الطلاق ومآسي الأطفال الذين شرّدتهم الأزمة وقصص هجرة الشباب خوفاً من الحرب، وبحثاً عن الأمان وما تعرضوا له من إشكاليات كبيرة، وقد غابت الدراما السورية برأيها عن تلك الجوانب الهامة، موضحة أن التقصير الملاحظ أيضاً كان في عدم تناول قصص الأطفال والمرأة في زمن الحرب في الأعمال الدرامية، ويعود هذا إلى نقص الأقلام الواعية والمتمكنة، إضافة إلى أن المنتج السوري في المجمل لا يريد الاقتراب من تلك الخطوط خوفاً من كساد منتجه وعدم شرائه من معظم الدول العربية والخليجية خاصة.
إكراه تجاري
وكصاحبة قضية تتعلق بالمرأة أولاً وبالأطفال ثانياً تبين د.عفاف أن أعمالها المنتجة وغير المنتجة تتناول مواضيع المرأة والطفل للعلاقة الوثيقة بينهما، لكنها توقفت مؤخراً حين طرحت مسلسلاً يتحدث عن حقبة مهمة ومشرقة من تاريخ البلاد، مثل حرب تشرين واستشهاد طيار هو شقيق بطلة العمل التي عانت واجتهدت كثيراً للوصول إلى مجلس الشعب في تلك المرحلة، ولأسباب خاصة بجهة إنتاجية رفض العمل ليحال النص إلى الوزارة وليبقى إنتاجه وعداً تتمناه وتنتظره، آسفة لأن السوق الدرامية تفرض هيمنتها وتحدد مواصفات الأعمال التي ستشتريها وأسماء الفنانين، وهذا برأيها إكراه تجاري وتحكّم مدروس لغايات في نفس يعقوب.
وتعترف د.عفاف أنها ترفض الأعمال المشتركة بالمطلق إن كانت ستحمل لنا أعمالاً تتناول بشكل غير لائق موضوعات لا تناسب مجتمعنا، كالخيانة الزوجية وأشخاصاً خارجين عن القانون عملوا في مافيا المخدرات بما يقارب مسلسلاً عن أسطورة المخدرات الكولومبي اسكوبار.. وبالمجمل ترى أننا الآن بحاجة إلى الخلاص من آفات تضخمت مؤخراً داخل المجتمع السوري نتيجة تلك الحرب الطويلة الشرسة، كالسرقة والخطف وتهريب المخدرات ولسنا بحاجة إلى تعلم المزيد من المفاسد عبر أعمال تقدمها الدراما المشتركة، مبينة كذلك أنها غير مقتنعة أيضاً بالأعمال الكوميدية التي قُدمت مؤخراً رغم أنها طلبت تعديلاً معيناً كمستشارة درامية بموافقة الوزارة من منتج أحد الأعمال الكوميدية ومخرجه، إلا أن العمل أنتج دون تعديل، في حين أن أعمالاً أخرى استندت على الإبهار وشدِّ أنظار الشباب من خلال صبايا فاتنات بثياب مبالغ فيها، وبعضها الآخر لم يقترب من حدود كوميديا الموقف ولم نشهد فيه ملمحاً كوميدياً لامعاً، إنما كان تكراراً لما عشناه من أحداث خلال الأزمة التي شهدت اختناقات كثيرة معيشية تعرض لها المجتمع السوري، دون أن تقدم معها أعمالاً كوميدية ترتقِي بالكوميديا إلى المستوى المتوقع منها في ملامسة منطقة الألم التي أوجعت الشعب السوري، مؤكدة أن المساحات مفتوحة للدراما الواعية التي يمكنها أن تتناول مواضيع شتى ترتبط بتداعيات الأزمة وأسبابها وبما يمكن أن يصبح عليه مجتمعنا مستقبلياً بعد انتهاء الحرب من خلال تناول قضايا اجتماعية كثيرة، حيث الخيارات مفتوحة ولا تربطها أي جهة رقابية بأهداف معينة شريطة توفر القلم الجيد النظيف والثقافة العالية، منوهة إلى أن أسباباً كثيرة ساهمت في عدم تقدم الدراما السورية مؤخراً، منها ما ينصب بالمجمل على آلية انتقاء النصوص التي باتت تتدخل بها جهات عدة، ففي الوقت الذي تُرفَض فيه نصوص من جهات الرقابة الفكرية تظهر لجان خاصة توافق عليها، مع إهمال دور اللجنة الاستشارية العليا التي من مهامها الاطلاع على النصوص جميعها الموافق عليها وغير الموافق عليها، ومن ثم ترفع مقترحاتها إلى السيد وزير الإعلام للمصادقة عليها، مبينة أن عمل اللجنة العليا سار بشكل جيد إلى أن تسابقت اللجان الخاصة إلى حسم الأمر لصالحها، فعطلت وصول النصوص المرفوضة إلى اللجنة الاستشارية، موضحة د.عفاف أن المنتج السوري لا يهتم أحياناً باللوائح والتعليمات ويعمل على إنتاج المسلسل ثم يطلب الموافقة التي يرى البعض أنها أصبحت استحقاقاً رسمياً له لأنه وضع أمواله في الإنتاج، وهذا برأيها ليس منطقياً، وإن كانت الأمور تؤخذ بمعاييرها المادية فقط لكان الأحق أن ننظر إلى من خسروا أموالهم وبيوتهم، والأهم أولادهم.
لجان تشاركية
وللوصول إلى دراما سورية متألقة كعادتها تطالب د.عفاف بإفساح المجال للمفكرين من أصحاب الخبرة لأن معظم كتّاب دراما اليوم لا يحملون الشهادات ولا خبرة واسعة لديهم، وكذلك بعض المنتجين، فيتم انتقاء نصوصهم وفق تزكية بعض من يحيطون بهم، وهم أيضاً من غير المؤهلين لخوض هذا الموضوع الهام.. والحل الأمثل في رأيها هو تشكيل لجان تشاركية من مفكرين وصحفيين لهم أقلامهم الناضجة وفكرهم التنويري، لإحداث ورشات عمل تختار الأعمال الدرامية وتتعاون على تحويلها إلى نصوص لائقة بسمعة الدراما السورية والشعب السوري، وهذا ضروري في المرحلة الراهنة لإنقاذ أجمل دراما عربية من كل أشكال التمييع لها.. من هنا ترى د.عفاف أن حديثها الدائم عن ضرورة رفع المؤهلات الفكرية والثقافية لدى كتّـاب الدراما جاء بعد أن وجدنا تشويهاً حقيقياً ومؤلماً في أعمال البيئة الشامية من قبل كتّاب قدموا بيئتنا الشامية وتاريخنا للمشاهدين بشكل فيه إسفاف ومغالطات فجة، وقد سمعت من أحدهم أن أمه كتبت له حتى الآن حوالي أربعة أعمال شامية، فهل يعقل؟ مشيرة إلى أنها تقدمت باقتراح للخلاص من تلك الحالة يتلخص بضرورة الاستعانة بموثِّق تاريخي يحمل شهادة الدكتوراه لتوثيق مسلسلات البيئة، حيث لا توجد بيئة منفصلة عن أحداث هامة فيها، وتأسف لأن ذلك لم يتم تفعيله رغم الموافقة عليه، كما يحزنها أن بعض كتّاب الدراما يستعينون بكتّاب من ذوي الثقافة الأوسع وينسبون العمل إليهم، ولديها شكوى من كاتبة على كاتب بيئة مشهور بهذا الجانب.
فوضى فنية
وتحدثت د.عفاف في كتاباتها مؤخراً عن أن الأوساط الفنية بحاجة لرعاية نفسية، وهذا برأيها يعود إلى تلك الفوقية التي يعيشها أي ممثل أو مخرج أو كاتب يدخل في عملية البناء الدرامي حتى لو كان فاشلاً أو حديث العهد فنجده فوراً من رواد الفنادق خمس نجوم أو لم تعد تعجبه بلده وقت الحرب فيسافر إلى لبنان أو مصر، وتأتي التغطيات الإعلامية لتزيدهم غروراً وهم أصلاً دخلوا الوسط الفني بحثاً عن الشهرة والمنفعة المادية، وهذا برأيها لا يليق بفنان صاعد أو مخرج مبتدئ، مشيرة في الوقت ذاته إلى الفوضى التي خلقتها شهرة العمل في الدراما السورية وقد توضحت في كثافة عدد النقاد دون المخزون النقدي لهم واستخدام البعض ألفاظاً غير لائقة للفت النظر وذهاب بعض الفنانين إلى عقد ندوات لبحث أمور الدراما، وهذا برأيها غير مقبول لأن الفنان مهما كان لا يمكن له أن يكون حكماً في هذا الجانب كون مصالحه الخاصة تفوق كل مقولة نقدية.
وتؤكد د.عفاف أن الدراما السورية مازال لها رصيد كبير من المتابعة وأن نقدها لها لا يعني الإساءة إلى هذا المنتَج الهام، وما هو إلا شحنات عالية من الشغف والغيرة ولأجل تصويب بعض أخطاء سقطت الدراما فيها خلال سنوات الحرب، مع أهمية تحجيم كل من وجد في الدراما منفذاً للشهرة والمكسب وقد عاش سنوات يبحث عن عمل فجاءت فوضى الانتقاء وآلية الموافقة على النصوص والمحسوبيات، لتكون من أسباب تراجع الدراما السورية وعبور من يشاء إليها، مع إيمانها أن أصحاب الضمائر العالية المحبة لسورية وثقافتها ونسائها وأطفالها وتاريخها لن يبقوا غائبين عن هذا المجال الهام، وأنها من خلال صحيفة “البعث” تدعوهم إلى المشاركة الفورية في كتابة أعمال الدراما لنعيد ألق الدراما السورية من جديد.
أمينة عباس