في الفكرة القومية
د. خلف المفتاح عضو القيادة القطرية للحزب
يواجه الفكر القومي العربي راهناً تحديات غير مسبوقة، وكذلك هو حال الفكرة الوطنية، أمام هذا الاستيقاظ العنيف للهويات الضيّقة، وما تحت الوطنية، ومحاولات تصعيد الانتماءات الدينية والطائفية والعرقية، لتكون هويات بديلة إلى درجة أن سؤالاً من قبيل: من نحن، بدأ يطرح في الأوساط الفكرية والثقافية والاجتماعية على مساحة الجغرافية الثقافية العربية، هذا التحدي الوجودي يستدعي بالضرورة موقفاً فكرياً واضحاً من كل القوى القومية بتياراتها وأيديولوجياتها المختلفة يتضمن إجابة واضحة وغير ملتبسة أو مراوغة على هذا التحدي، وفي المقدمة من تلك القوى حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي رفع ومازال شعار الوحدة العربية منذ البدايات الأولى لولادته الفكرية، التي سبقت ولادته كتنظيم سياسي بعدة سنوات.
إن العودة بذاكرة خلفية بعيدة أو قريبة لأدبيات حزب البعث تدل دلالة قاطعة على أنه طرح الفكرة القومية في إطار ثقافي حضاري وليس أيديولوجيا عقائدية أو غيرها، بمعنى أنه رأى في العروبة وعاءً ثقافياً حضارياً يستوعب كل المكوّنات الاجتماعية والفكرية والعرقية بتنوعها على مستوى الساحة القومية ودونما إقصاء أو تهميش لأي منها، فالأمة العربية تتضمن أصولاً قومية وثقافية متعددة ، والقومية العربية ليست أيديولوجيا ذات اتجاه أو سياق واحد، وإنما محتوى ثقافي يضم في داخله كل تلك المكونات، التي أشرنا إليها، وليس هي المكوّن بمعنى أنها الصندوق، وليس ما يتضمنه أو يحتويه، وهذا يعني أن الإطار الثقافي للقومية العربية يمكن أن يحتوي: القومي، العلماني، والليبرالي، واليساري، والديني، وليس استئثاراً أو احتكاراً لهذه الأيديولوجيا أو تلك، ومن كل هؤلاء تتشكل الكتلة التاريخية التي يمكنها مواجهة هذه التيارات الراديكالية المتطرفة التي بدأت تتمدد على مستوى الجغرافيا العربية، تحت عباءات الدين والطوائف والأعراق والمذاهب، وتعمل تفتيتاً وتشظية بالفكرتين الوطنية والقومية، في سابقة لم تشهد المنطقة العربية لها مثيلاً على مر المئات من السنين.
إن الحديث عن الفكرة القومية ذات الطابع الثقافي الحضاري أو العروبة الثقافية، والتي تشكل قاسماً مشتركاً لكل القوى، التي أشرنا إليها، لا يستوجب بالضرورة، في إطار أي مقاربة لفكرة الوحدة العربية، أن يرتبط ذلك بالمضمون الطبقي والاقتصادي والاجتماعي لتلك الصيغة، أو تلك من صيغ الوحدة أو الاتحاد، وإنما بضرورات المصلحة القومية أولاً، وطبيعة الصيغ المرنة لتلك الكيانات المتأملة، سواء كانت ذات طابع قومي شامل، أو إقليمي تستدعيه ظروف كل دولة عربية، أو إطار جديد لذلك الاتحاد، إضافة إلى أن الصيغ التي يفترض أن يشتغل عليها لا تستدعي بالضرورة أن تكون ذات طابع تجميعي، فقد تكون صيغ الوحدة أو الاتحاد تستلزم أن تكون بمستويات سياسية أو اقتصادية أو أمنية في الإطار القومي وتنتقل بالتدريج إلى الصيغ الاتحادية التي تتوفر لها أرضية النجاح، بمعنى أنها حركة صاعدة من القاعدة إلى القمة، وعبر تمرحل ممنهج وعقلاني تستدعيه المصلحتان الوطنية والقومية، ويشعر المواطن بانعكاسه الإيجابي على مستوى معيشته وأمنه واستقراره، ويتقاطع بالضرورة مع حلمه التاريخي.
إن الحديث عن وحدة عربية أو اتحاد عربي ليس حلماً رومانسياً أو خيالاً، بقدر ما هو ضرورة وطنية وقومية تستدعيها جملة التحديات ذات الطابع الوجودي، التي بدأت تنصب خيامها وتذلق عناوينها في أكثر من ساحة على الأرض العربية، فالدولة الوطنية (القطرية) بحكم جغرافيتها وإمكاناتها الاقتصادية والبشرية لم تعد قادرة على مواجهة خطر الإرهاب والقضاء عليه، وهو الذي بدأت فأسه تضرب وتهدم في غير مكان محدثة آثاراً غير مسبوقة في أكثر من بلد عربي ومنتجة تضاريس أقل ما يقال عنها إنها لا وطنية، وتمعن تفتيتاً وتشظية وتقسيماً، إضافة إلى تحديات العولمة وما تستدعيه من تكتلات اقتصادية تستطيع التعامل مع آلياتها من موقع الشراكة لا التابعية أو الابتلاع ومن ثم التقيؤ، خاصةْ وأن رياحها العاتية بدأت تقتلع أو تهز أركان الكثير من الكيانات الهشة والضعيفة والمستلبة، سياسياً في أغلب الأحيان.
والحال إن العرب اليوم بغض النظر عن الطبيعة السياسية والأيديولوجية وفلسفة الحكم التي تتبناها أنظمتهم، وكذلك أصحاب الفكر القومي على اختلاف مشاربهم الأيديولوجية، أمام تحد حقيقي لا يقبل التأجيل أو التسويف والمماطلة، ويتمثل في حسم خياراتهم باتجاه بنية الدولة الوطنية (القطرية) واستمرارها، وفكرة العروبة والوحدة العربية وإمكانية بث الروح فيها، في صيغ ومقاربات جديدة، وهذا يستدعي بالضرورة هجوماً معاكساً فكرياً ثقافياً حضارياً تقوده النخب الفكرية والأحزاب الوطنية والقومية، ويستند راهناً إلى قاعدة شعبية واسعة الطيف، تجد صدى حقيقياً لها في دمشق بعنوانها القومي المقاوم، والذي لا يحتاج إلى تعريف.