ثقافة

حقائق متداخلة

عندما تتشوّش الأزمنة تصبح قراءة المتسبّبين بالتشويش عملاً يشدّ العزائم ما يعني أنّ مزاجنا الصافي هو اللحظة المناسبة، من أجل الاطّلاع على فيليب كندريد ديك، أبرز المحقّقين في الدوائر المظلمة، وهو يقوّض هذه المجموعة من الحقائق المشتركة السائدة التي تكوّن نظرتنا إلى العالم، وأهم ما كتبه ديك (1928-1982)هو في مجال الخيال العلمي، لكنّه لم يعالج كثيراً موضوع الرجال الصغار الخضر فهو ينزع بقوّة إلى استكشاف الفضاء الداخلي بدلاً من اهتزازات الصواريخ العملاقة فبالنسبة إليه، كون المرء إنساناً هو العجب صراحة.
في هذا الإطار، عملت دار ” قرأت” للنشر وعلى مدى سنتين، على نشر ثمانية وثلاثين كتاباً من كتبه، في ترجمات جديدة أو مصححة وفي هذا بعض الجرأة، إذ إنّ ديك هو كاتب جليل، ولأنّه كذلك تحديداً، لا يرتقي على لوائح أفضل المبيعات، إضافة لذلك فقد سبق أن نُشرت مؤلفاته الأصلية كاملة بأناقة العارفين وشغف الأذكياء، خصوصاً عند دارpress pocket0 وبالطبع أنّه منذ وفاته تمّ اقتباس اثني عشر كتاباً من كتبه للسينما، ناهيك عن الأفلام التي استوحت بعض مواضيعه دون أن تعلن ذلك، نكتفي منها بذكر فيلم هو “ماتريكس matrix “، مما ساهم في تألّقه لكن، وبشكل أوسع، فإن روح العصر هي التي أصبحت “ديكنيّة”. والحال أنّه، على عكس ما يظنّه البعض بشيء من التعجرف (كما تقول إحدى شخصياته الروائية بخصوص رواية الخيال العلمي “إن السكرتيرات هنّ اللواتي يقرأن هذا النوع من الحماقات”، فإن دخول عالمه ليس أبدأً أمراً سهلاً وبالتالي إنّه لأمر مستحب أن يعاد طرح أحد كتبه وهو “سيد القصر السامي”، كمدخل إلى متاهاته؛ وهي إحدى رواياته التي لدى نشرها في العام 1962 قد أمنّت له بعض الشهرة، في حين عالجت بصفاء ما يشّكل أساساً لكل رواياته: مساءلة حقيقة الحقيقة.
تدور أحداث رواية “سيّد القصر السامي” في الولايات المتحدة في ستينيات زمنِ موازٍ: هو خروج ٌعن الزمن بشكل آسر .ذلك أن الألمان واليابانيين هم الذين انتصروا في الحرب. وقد تقاسم المنتصرون العالم، فوضع الساحل الغربي للولايات المتحدة تحت السيادة اليابانية. واستمرت الحياة قاتمة قليلاً بالتأكيد بسبب الهزيمة وجنون النازية التي سيطرت على سائر المناطق الأخرى، لكنّها تستمرُ في النهاية حتى وإن لم تعد الولايات المتحدة سوى تاريخ بائد، وموضوع حضاري على الموضة عند اليابانيين النهمين إلى أشياء”نموذجية”. أمّا الأمريكيون فقد بادروا على غرار محتلّيهم، لقراءة “كتاب التحولات”، الـ”بي كينغ”، وهو وسيط الوحي الذي يستشار كلما طرأت حالة من التردد أو الحيرة. وازدهرت الأعمال، وقصص الغرام والانهيارات العصبية لكن كتاباً صغيرا ًيولّد بعض الإثارة: إذ أنه يعالج الحاضر البديل، كما الكثير من روايات الخيال العلمي، ويؤكّد أنّ الحلفاء هم الذين ربحوا الحرب وماذا لو كان الأمر صحيحاً؟ وإذا صحّ ما كان يستشعره البعض – “نحن نعيش في عالم مصاب بالذهان”- فأي كابوس، وأي هذيان يتسبب بهذا العجز عن الوصول إلى الحقيقة؟ الكاتب، لا يقدّم حلاً، وهذا هو الأجمل في كتابه: هو يكتفي بأن يزرع البلبلة كما ولو أنه ينشر بلعبته الحلزونية جملة كارل ماركس: “منذ زمن طويل، يعيش العالم حلمه بشيء يكفيه أن يكون واعياً لكي يمتلكه فعلاً”.
ترجمة: إبراهيم أحمد
عن صحيفة اللموند .