إبلا حكاية حضارة عريقة لم يمحها الزمان
من ليس له ماضي ليس له حاضر ولا مستقبل فكيف يكون الحال مع ماض عمره آلاف السنين ومازال يحيا بالنبض والروح من خلال ما قدمه للبشرية من إنجازات عبر حضارات طال إبداعها جميع الميادين، وهذا هو حال جميع الحضارات السورية القديمة ومنها مملكة إبلا التي كانت موضوعاً للاحتفاء بالذكرى الخمسين لاكتشافها من خلال التظاهرة الثقافية التي نظمتها المديرية العامة للآثار والمتاحف برعاية وزارة الثقافة على مدى يومين والتي تضمنت عدداً من المشاركات لباحثين سوريين وإيطاليين كما تضمنت الفعالية في يومها الثاني معرضاً للصور يوثق الأضرار التي تعرضت لها المواقع الأثرية السورية وترافق ذلك مع معرض للكتاب تضمن العديد من العناوين في مجال الآثار. وفي وقفة مع معاون وزير الثقافة ماهر عازر حدثنا عن التظاهرة مؤكداً على أهمية اكتشاف مملكة إبلا في تاريخ البشرية كون ذلك الاكتشاف رمم حلقة مفقودة في تاريخ الدراسات الأثرية. وعن المعرضين المقامين في خان أسعد باشا قال عازر: يسعى معرض الصور لتسليط بعض الضوء على الأضرار التي تعرضت لها المواقع الأثرية السورية بسبب الهجمة الشرسة التي تتعرض لها سورية والتي تستهدف البشر والحجر. واعتبر عازر أن الجانب الأخطر للهجمة هو الجانب الفكري الذي يستهدف الحضارة السورية مثمناً الجهود التي قدمها المجتمع المحلي والتي ساهمت بتقليص الأضرار التي لحقت بالمواقع الأثرية إلى أقل الحدود. أما معرض الكتاب فهو تأريخ حول الأماكن الأثرية والمراحل التي مرت بها في سورية.
فقدان الهوية خسارة أبدية
بدوره أكد د. مأمون عبد الكريم مدير الآثار والمتاحف أن الهاجس الأكبر لدى المديرية هو عملية إنقاذ ما يمكن إنقاذه من المتاحف معتبراً أن الإشكالية العظمى هي المواقع وما جرى فيها. وأضاف عبد الكريم: لدينا حوالي 2500 موظف من مختلف الاختصاصات موزعين على كامل الجغرافية السورية هؤلاء هم المراسلون للمديرية لتوثيق ما يمكن من أضرار على مستويات الاشتباكات أو التنقيب السري حتى نتعرف بدقة على حركة التهريب واستفحال تدمير المواقع لتكون لدينا خطة محلية بالتنسيق مع خطط عالمية. وأكد عبد الكريم أن هناك كماً كبيراً من المادة التوثيقية من الصور والبيانات وكان لابد من نقل الواقع ليس من خلال مقابلات صحفية بل من خلال معارض للصور تسهم في تعريف المواطن السوري على حقيقة ما جرى بهدف توحيد الجهود بين جميع الجهات الحكومية وغير الحكومية في سبيل تخفيف الأضرار، وختم عبد الكريم حديثه بالتأكيد على أن أغلب الأضرار قابلة للإصلاح إلا الهوية إذا تم تدميرها واختراقها ستكون خسارة أبدية عبر الأجيال.
لغة مستقلة
وفي مجال الأبحاث فكانت البداية مع د. عيد مرعي الذي تناول الحياة الثقافية في إبلا وركز على اللغة الكتابية والحياة الثقافية مشيراً إلى السجال الذي دار بين العلماء حول حقيقة الكتابة المسمارية الإيبلائية وهل هي أكادية أم سومرية أم آرامية مشيراً إلى التشابه بين كل ما ذكر، لكنه نبّه إلى الاختلاف في استخدام الخط أو الكتابة والنتيجة كانت تصنيف اللغة الإيبلائية ضمن لغات المشرق القديمة كما تحدث مرعي عن المراحل التي مرت بها الكتابة المسمارية.
كما تحدث محمود حمود في مشاركته عن تل أم المرا كأحد المواقع من حيث الموقع والمساحة والامتداد وركز حمود على العصور المختلفة التي مر بها التل في العصر البرونزي المبكر والوسيط والمتأخر وأهم الأنشطة البشرية والمعمارية في كل عصر.
علاقات مهمة مع الجوار
ورأى يعرب العبد الله في مشاركته التي بحثت في العلاقات بين الفرات وإبلا أن إبلا ارتبطت بعلاقات مهمة مع الأماكن المجاورة ومنها علاقتها المكثفة مع حوض الفرات بسبب المكانة الزراعية والاقتصادية، أما علاقة إبلا بمملكة ماري فقد كانت علاقة سيطرة وهيمنة ويمكن القول أن تجار ماري لعبوا دوراً أساسياً في تجارتها بسبب موقع ماري أما علاقات إبلا بإيماز فقد كانت قوية كون إيماز تعتبر الميناء الهام على الفرات ومثلها كانت العلاقة مع كركميش.
قدمت أقدم قاموس
أما د. محمود السيد فقد تحدث عن نظام الكتابة المسماري في إبلا وبدأ بالمراحل التي مرت بها الكتابة المسمارية ليؤكد من خلال الرسوم والتوضيحات اختلاف الكتابة المسمارية الإيبلائية عن الكتابات المسمارية الأخرى مع وجود بعض التشابه، كذلك تحدث السيد عن الجملة وتركيبها وما تتضمنه من ضمائر متصلة ومنفصلة واسم فاعل واسم مفعول ومذكر ومؤنث مؤكداً أهمية الحضارة الإيبلائية التي قدمت للبشرية أقدم قاموس في اللغة.
دليل على ازدهار الحياة
أما مشاركات الباحثين الإيطاليين فقد بدأت مع ستيفانيا ماتسوني وتناول بحثها القصر والتخزين والاستهلاك الغذائي مركزة على الطراز المعماري لذلك القصر وتوزع الغرف والأجنحة المتنوعة في استخداماتها وكذلك كثرة الأماكن المخصصة لتخزين الطعام مما يدل على غنى الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وازدهار في المملكة.
تنظيم متميز
أما بحث فرانشيسكا بافي فقد تناول مسألة الفصل بين الريف والمدينة من إبلا وتل طوقان معتبرة أن الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية أدت لنشوء بنى مادية للتقسيمات لأسباب عدة ومن أسباب التقسيم التي جاءت في بحث بافي الحفاظ على المدينة من الأخطار التي يمكن أن يسببها القادمون من الريف للمدن التي كانت وفق شكل تراتبي هذا التنظيم الدقيق برأي بافي يعكس وراءه تنظيماً سياسياً داخلياً متميزاً وقادراً على تنفيذ هكذا برنامج.
مركز للمواصلات والتجارة
كما تناولت مشاركة الباحثة الايطالية ماريا جيوبياني بيجا العلاقات الدولية لمملكة إبلا وفقاً للأرشيف الملكي الذي كان له دور مهم في معرفة حقيقة الحياة في إبلا وسورية القديمة والتي أكدت على العلاقات الهائلة لإبلا مع ما حولها كونها شكلت مركزاً مهماً للمواصلات والتجارة في الألفية الثالثة قبل الميلاد وركزت بيجا على علاقة إبلا بمملكتي ماري وأورسيام لتؤكد ذلك.
الأرشيف الملكي وكشف الحقائق
أما البحث الأخير فكان للباحث ألفونسو آرتي وتناول بحثه الحديث عن سورية وبلاد الرافدين وأهمية اكتشاف الأرشيف الملكي الذي لعب دوراً مهماً في تغيير النظرة التي كانت سائدة لدى الباحثين ومن ذلك ما يؤكده هذا الأرشيف من وجود تحالفات بين الممالك والسلالات الملكية وقدم آرتي العديد من الأمثلة على ذلك.
جلال نديم صالح