ثقافة

ماذا فعل ساعي البريد؟!

ما تزال رسائل المناضل “غسان كنفاني” إلى “غادة السمان” تثير اللّغط والصخب ذاته حتى بعد مرور أكثر من عشرين عاماً على نشرها، من قبل الأديبة التي طالما أثارت الجدل في أعمالها؛ رسائل كانت مصدراً للعديد من الاجتهادات وخلقت وجهات نظر متباينة حول دقة ما نشر ومصداقيته، ناهيك عن أخلاقيته؛ خصوصاً بين أصدقاء ومحبي روائي ومناضل تسامت صورته حتى قاربت الأسطورة في أعين “مريديه”، ليأت الكشف عنها بحجة الخروج بصورة المناضل من نمطية الفكرة السائدة وملامسة “إنسانيتهم” وكشف ما اعتبرته السمان حينها “أقنعة” تتخفى خلفها حقيقة “مشاعر رجالات النضال البشرية”، متيحة للقراء الدخول من خلال الرسائل إلى “جوانية” الأديب حامل القضية.
ولعلها بذكائها وحنكتها التي عرفت  بها؛ كانت تدرك بشكل مسبق وقع “انتهاكها لخصوصية مشاعر كنفاني” والتي كانت كمن عبث بعش الدبابير، إذ استبقت النشر كما صرحت في أحد حواراتها الصحفية أنها قامت بتوجيه نداء ناشدت من خلاله كل من يمتلك شيئاً من رسائلها إلى غسان أن يكشف عنها ليتم تضمينها مع رسائله إليها، وهو ما شكل الرد المسبق للتساؤلات حول عدم وجودها كي تشكل ما يمكن اعتباره أدب الرسائل، ليأت قولها في ذات الحوار أن لا أحد من الأقارب أو الأصدقاء كان اعترض يومها على النشر “وإلا لم أنشرها إكراماً لغسان ولقضيته التي يحملها”. بينما يحاججها البعض أنها صرحت في ذات الحوارات التي نشرتها في كتاب أسمته “محاكمة حب” بأنها لم تكن مستعدة لمجاملة أحد في الأمر الذي يأتي حرصاً من قبلها على تأريخ جانبٍ محددٍ من حياة كنفاني “يجب أن يعرفه القارئ”، وفي سبيل “تأسيس أدب سيرة حقيقي” يفتقده الإبداع العربي.
غادة السمان ليست الوحيدة التي خاضت تجربة الكشف تلك؛ إذ يحفل تاريخ الأدب العالمي والعربي بحالات مماثلة وقد تكون مراسلات “نيرودا وإلزا” من أكثرها تأثيراً وانتشاراً إن لم تكن الأكثر عالمياً، بينما نالت حصتها من الانتشار في عالمنا العربي، رسائل تبادلتها ديزي الأمير مع الشاعر خليل حاوي، وحازت رسائل مي زيادة وجبران خليل جبران على الصدارة بين التجارب العربية، تلك التي شكلت نوعاً أدبياً شديد الرقي يحمل من المشاعر والأحاسيس التي تعتبر تجسيداً خالصاً للحب العذري، إذ يخاطبها جبران في واحدة من رسائله:
“هل تعلمين يا صديقتي بأني كنت أجد في حديثنا المتقطع التعزية والأنس والطمأنينة، وهل تعلمين بأني كنت أقول لذاتي، هناك في مشارق الأرض صبية ليست كالصبايا، قد دخلت الهيكل قبل ولادتها ووقفت في قدس الأقداس فعرفت السر العُلوي الذي اتخذه جبابرة الصباح ثم اتخذت بلادي بلاداً لها وقومي قوماً لها” .بينما تقول له تواري حبها خلف الكلمات:
“لقد كتبت كل هذه الصفحات لأتحايد كلمة الحب ، إن الذين لايتاجرون بمظهر الحب ينمّي الحب في أعماقهم قوه ديناميكية رهيبة قد يغبطون الذين يوزعون عواطفهم في اللألأ السطحي لأنهم لايقاسون ضغط العواطف التي لم تنفجر، ويفضّلون تضليل قلوبهم عن ودائعها، والتلهي بما لاعلاقة له بالعاطفة، يفضلون أي غربة؛ وأي شقاء، وهل من شقاء وغربة في غير وحدة القلب؟ على الاكتفاء بالقطرات الشحيحة” .
هي صورة لعاطفة سكنتهما، كانت له ملهمته؛ وكان لها الوحي بعباراته الرقيقة المدهشة الآسرة دون ابتذال، عشرون عاماً ما التقيا خلالها إلا عبر الكلمات التي حلقت بهما الاثنين في عالم أدبي وروحي نقي، جمعهما رغم المسافات البعيدة إذ عاش في الغرب بينما هي في مشرق الدنيا، وتجسد في إرث يمكن له أن يدعى “سيرة عاشقَين” و”أدب رسائل” بقيت العزاء الوحيد بعد رحيله الذي أرهقها، حرصت عليها ليتم جمعها بعد وفاتها بجهد ابنة دمشق الأديبة السورية “سلمى الحفار الكزبري في “الشعلة الزرقاء”.
وللرسائل مثال أكثر رقياً بخصوصيتها؛ حاملة قضية وفكر، هي رسائل “أنطون سعادة” إلى أدفيك جريديني التي أتت توثيقاً خالصاً لها بعد إخفائها لأكثر من ستين عاماً، أخرجتها جريديني إلى العلن بالصورة التي تليق بها، تقول في حوار لها بعد نشر الرسائل التي حملت مشاعر، الحب، القضية والفكر كلاً واحداً:
–  كنت أتعب في صوغ رسائلي، لكني كنت قادرة على ترتيب الجملة، وكانت لغتي سليمة وكان يشعر بأن لديّ “نفساً” جميلاً في الكتابة، وبالتالي كنت أفهم رسائله وأرد عليها. لكني كنت أخبره بأني أجد صعوبة في استيعاب أسئلته وحياته، وبالتالي الوصول إليه، وكان يجيبني بأنه سيحاول التخفيف منها، وتكمل: لم يكن يؤلمني أبداً دمج القضية بحبي، وهذا أمر طبيعي، فقضيته وجدت قبلي، لقد كنت أتفهم كل أوضاعه.
رسائل كانت ملهمتها لكتابيها “بوح” و”شوق” ومصدر سعادتها والخيلاء لارتباط اسمها بصاحب قضية وفكر أثبت صوابيته في كل حين، رسائل هي ذاتها قيمة أدبية بالخصوصية المتأتية من كاتبها.
وبرغم أن حاضرنا اليوم لا يقيم الوزن ذاته للاعتبارات الاجتماعية التي تتحكم بشكل أو بآخر في الكشف عن هكذا نوع من المراسلات، لا يمكن للكتاب الأخير الذي أصدرته غادة السمان الأسبوع الماضي، متضمناً رسائل نسبتها إلى الشاعر أنسي الحاج وجهها إليها في العام 1963 بينما كانت في بدايات دراستها الجامعية وتضج فرحاً بصدور أول كتبها “عيناك قدري” لا يمكن؛ إلا أن يثير الكثير من التساؤلات والاستياء والآراء المتباينة ذاتها التي واجهتها من قبل، وكيف يمكن لها توثيق ما لا يمكن توثيقه بغياب صاحب الرسائل الذي وصفه أدونيس يوماً بالأنقى بين أصدقائه، وأين هي الاعتبارات الأخلاقية التي غيبت الردود هذه المرة كما في سابقتها لصاحب البرتقال الحزين من قبل، بينما التساؤلات باتت مشروعة على شاكلة “ماذا فعل ساعي البريد بالمكاتيب”؟ وما سيأتينا به القادم من المستقبل لرسائل جديدة لا ردود عليها.
بشرى الحكيم