ثقافة

الرقابة السوريّة شكراً لك

“أنتم شعراء، ونحن شعراء، متنافسون وخصوم في أنبل دراما، القانون وحده يتمّها كما نأمل، فلا تفترضوا إذاً أنّنا سنسمح لكم في لحظة أن تقيموا خشبة مسرحكم في الساحة العامة، ونسمح لكم بأن تخاطبوا نساءنا وأطفالنا والعامة فيما يتعلّق بمؤسساتنا بلغة غير لغتنا، وغالباً بلغة تناقض لغتنا، فسيكون جنوناً من الدولة أن تمنحكم هذا التصريح قبل أن يقرر القضاة، اعرضوا أناشيدكم  أوّلاُ على القضاة ودعوهم يقارنوها بأناشيدنا، فإذا كانت تماثلها أو تفوقها فسنقدّم لكم جوقة، أمّا إذا لم تكن يا أصدقائي فليس بمقدورنا”
الكلام السابق ليس صادراً عن الرقابة السوريّة، وليس لـ “جاهل أو مرتزق” كما جاء في وصف أحد الصبيان للرقيب الدرامي السوري، كاتب السطور أعلاه ليس موظّفاً بطقم رمادي وأختام عديدة ومكتب وخطاب خشبيّان، إنّه لفيلسوف تتلمذ على سقراط شهيد الحقيقة الفلسفيّة، لمفكّر قام بأوّل محاولة نظرية جادّة تطمح إلى جمهوريّة فاضلّة؛ السيّد أفلاطون ، الذي عندما أراد إلى دولة يُحاكي فيها  المثال الأعلى، رأى وجوباً أن يتحدّث عن ضوابط ومعايير الدراما، فالأمر لا يُترك مشاعاً لآرائكم يا معدن دعائم أركان الجهل .
ولكن مهلاً، لماذا نرجع إلى القرن الرابع قبل الميلاد؟ تعالوا نرى إلى الأمم الحديثة فننظر ماذا تصنع، وكيف تتعامل مع الصورة الذهنيّة التي تظهر فيها أمام الأمم الأُخرى وأمام نفسها وأبنائها.
مم تشكو اليابان؟ إنّ حكومتها حظرت خروج أي صور أو مقاطع للدمار الذي خلفه تسونامي عام 2011 حول مفاعل فوكوشيما، لقد أرادوا أن يُحافظوا على الصورة الذهنيّة للبلاد صاحبة المعجزة الصناعية؛ ومعظم المشاهد التي تسرّبت في الساعات الأولى للدمار كانت قبل قرار المنع، إما بكاميرات المراقبة في المحال، أو من سيّاح أجانب، كذلك فعلت الولايات المتحدة مع فيضان عام 2005 الذي غمر نيو أوريلانز، الفيلم الوثائقي الوحيد الذي سُمح بتصويره للمدينة كان بأمر الحكومة ولمصلحتها لأغراض الأرشفة والتوثيق وليس للعرض، لم تمتد أعناق كتّاب صحفهم إلى جرائد دول الجوار لمزاولة التشنيع وكيل الاتهامات على حكومتهم، لم يمارسوا انتهازية لا أخلاقيّة ضدّ بلدهم الخائض حرباً ضد عدوان عسكري وإعلامي تحسب فيه الكلمة الواحدة،ولسان حالهم يقول: إمّا أن توافقوا على أعمالي المُسيئة أو أفضحكم في صحافة الجوار!إنّ أقل وأيسر الواجبات الأخلاقيّة والمجتمعيّة للرقابة هي أن تقول: لا للأعمال المُسيئة.
إن المثالين السابقين رغم وثاقة صلتهما بجوهر الموضوع قد لا يُناسبانه تماماً، الحالتان وثائقيّتان عن الواقع،  فلنقترب أكثر إلى الدراما، أو إلى السيناريو المكتوب الذي يحاكيه ممثلون وممثلات.
في عام 1915 قرّرت المحكمة العليا الأمريكيّة، وهي أعلى هيئة قضائيّة عندهم أنّ حريّة التعبير لا تشمل الدراما، قد تشمل الصحافة والمنشورات، ولكن ليس القصّة المرئيّة التي يؤدّيها ممثلون، فالدراما على الشاشة تُعرض للجمهور العام بطريقة مجتمعية، لسويات ثقافية متباينة، لأطفال، لجهلة، لمتعصبين أو متحررين، إنّها محاكاة لواقع نراه عياناً، يكون فيها التأثّر والمحاكاة والتقليد أمراً وارداً؛ قرار المحكمة عاد بمجتمع الفيلم الأمريكي لنفس الجدل الذي كان أفلاطون قد ابتدأه قبل ثلاثة وعشرين قرناً خلت، المعترضون على قرار المحكمة ساقوا حججاً لا تختلف في جوهرها عن الحجج التي ساقها أرسطو ضدّ معلمه أفلاطون، والتي دافع فيها عن الدراما دفاعاً سيعرفه التاريخ بالتطهير الأرسطي أي (الانفعال الذي يحرر من المشاعر الضارة) وقد حدده كغاية للتراجيدية، إذْ ربط بين التطهير والانفعال الناتج عن متابعة المصير المأساوي للبطل، فاعتبر أن التطهير الذي ينجم عن مشاهدة العنف والحزن يسبب تنقية وتفريغ لشحنة العنف الموجودة لدى الجمهور، فيتحرّر من أهوائه، إنّه بهذا الرأي يردّ على المعضلة الأفلاطونية الواردة في الجمهورية، موقف معلمه من تلك العروض أنّها قد تعلّم الجمهور ما لا ينبغي، وأيضاً من الثيمة والحبكة، الفكرة يختصرها أفلاطون بخطورة الأثر التعليمي للدراما، فيقول: (ذلك أنّكم في مسرحياتكم يفرح الأشرار ويحزن الأخيار وهذا لا نقبل به أبداً في الجمهورية).
السجال اليوناني القديم عاد إذاً بنسخة معدّلة إلى مجتمع الدراما الأمريكيّة، إنه مع دخول الصوت إلى صناعة الفيلم بات حسمه أمراً ضروريّاً، لأنّ قراءة البصري الأيقوني  تحتمل تأويلات لا يحتملها اللساني اللفظي، فهو صريح، ما عجّل بظهور قائمة بمواضيع تمنعها الرقابة سنة 1929، عُرفت بقائمة (لا تفعل وكن حذراً) ويسميها البعض قائمة ( ويل هايز) رئيس الرقابة في هوليوود آنذاك، جاء فيها أحد عشر موضوعاً يجب تجنّبه، وستة وعشرين يجب معالجتها بعناية مشددة، من أهمّها:الألفاظ التجديفية على الأديان/ الاستدلالات على الانحرافات الجنسيّة/عناوين أو مشاهد لها علاقة بعرقلة تطبيق القانون أو رجال الشرطة بما يحرّض على ازدراء القانون/ الإهانة المتعمدة لأي أمّة أو جنس أو مذهب؛  طبعاً المحظور الأخير تُتقن الولايات المتحدة خرقه عندما يتعلّق بأمم أو أجناس أو مذاهب معادية لمصالحها، ولكنّ الكلام الآن عن الجانب النظري وليس عن ثغرات  التطبيق.
بعد ذلك في عام 1934 طرأت  تعديلات طفيفة غير جوهرية على القانون، وتمّ تأسيس إدارة قانون الإنتاج، فصار لزاماً على الأفلام أن تحصل على شهادة موافقة من أحد مكتبي الإدارة، واحدٌ في هوليود وآخر في نيويورك، وبلغ تشدد رئيس إدارة قانون الإنتاج -جوزيف برين- أنّه حدّد نهاية فيلم كازابلانكا إنتاج 1942، وقام بحظر أي إمكانية بأن ينتهي الفيلم بشخصيتي “ريك وإليزا” وهما يستمران بحبهما المحرّم، فكانت النهاية الحتمية بتنازل العشيق – ريك – عن إليزا لزوجها، بهدف إنهاء العلاقة غير الشرعية بينهما، في واحد من أهم مشاهد سيناريو تصنّفه جمعيّة الكتّاب الأمريكيين أنّه أفضل سيناريو في التاريخ، بالطبع لم تصلنا من تلك الحقبة أخبار عن صحفيين أمريكيين وثبوا إلى صحافة المكسيك أو كندا – على سبيل المثال – للاعتراض.
إن قانون 1934 سيخفّف لاحقاً من تشدده لسببين، الأوّل منافسة التلفزيون فالسينما باتت بحاجة أكثر إلى ما لا تشاهده الأسرة، وأيضاً وصول أفلام دوسيكا وبرغمان بجرعة تحررية ذات مزاج أوروبي؛ هوليود وجدت نفسها أمام شروط منافسة جديدة، ومع بداية الخمسينات ارتخت قبضة الرقيب، ومنذ الستينات هُجرت البنود المتعلقة بالشأن الجنسي، بينما حافظت الرقابة على شروط أخف فيما يتعلق بمواضيع الأديان، والتزمت قانونياً بمواضيع اهانة الأمم والأجناس والمذاهب الأُخرى طالما أنّ ذلك في مصلحة البلاد عموماً. ما سبق كان رأي فلاسفة اليونان منذ القرن الرابع قبل الميلاد، وأيضاً رأي هوليود في أوج نتاجها الفيلمي الدرامي الراهن، فلماذا هذا الاعتراض على الرقيب السوري؟ الطامّة أن الاعتراض يقوم على الرقابة كمبدأ، لم نسمع من المُعترضين استنكاراً لمنع موضوعات عادية من الطبيعي أن تُعرض، هم فعلاً يعتقدون أنّه يجوز لهم في الدراما ما يحلو لهم، إنّهم لا يقولون أنّ أعمالهم لا تتضمّن ما يستأهل المنع، لا يدّعون أنّ ما يجيء فيها متفق مع محاذير المصلحة السورية الوطنيّة العامة، بل يرفضون فكرة الرقابة جملةً وتفصيلاً، بادعاء أن الرقيب مزاجي أو أنّ الرقابة السورية متناقضة ومتعددة، يعتمدون على ثغرات القانون الرقابي بأن ما تسمح به هذه الجهة ترفضه تلك، وذلك لنسف فكرة الرقابة من الأساس.
إن أخطر ما في الأمر جاء في الدفاع عن بعض الأعمال السينمائية السورية المُسيئة بأنّها من إنتاج جهة مملوكة للقطاع العام، فهي لأنّها من إنتاجها يجب ألّا تُمنع.
إنّ استمرار تلك الجهة بالرقابة على أعمالها يضرب بعرض الحائط هدف عملية الرقابة، بالطبع لن تقوم بالاعتراض على فيلم تنوي إنتاجه، هذه “شيزوفرينيا” ثقافية سوف يكون وقتئذ إذا ما وقع، وإنّ قيام الرقيب الإعلامي في التلفزيون العربي السوري مؤخّراً بمنع عرض إعلان فيلم “العاشق”، وأيضاً مرور الفيلم المُسيء “الرابعة بتوقيت الفردوس” من أنابيب هذه المؤسسة بهذه البساطة، يدفع إلى الاعتقاد بضرورة العزم الحثيث على سحب هذه الميزة منها، ألا وهي ميزة الرقابة، فهي يجب ألّا يُباح لها ذلك، لأنّه خلط  صلاحيات بين ما هو تنفيذي وما هو قضائي، هذا إذا افترضنا أنّها تصنع أفلاماً تتفق مع الخطّ الوطني، فكيف وهي تتفنّن بالنقيض؟ هذه المؤسسة أن تخضع للرقابة خيرٌ لها وأبقى.    إن رمي القبعة بقوّة في الهواء فتحجب للحظة وميض الشمس غير أنّه يعود سريعاً فيُبهر، وذلك احتراماً لشجاعة الرقيب السوري أمام البلطجة في صحافة الدول المجاورة، إنّما يجب ألّا  يُنسينا ونحن نلتقط القبعة التي تهبط وتدور مسألتين ضروريتين؛ الحاجة لتحديد المعايير الرقابية ببنود واضحة مكتوبة لا تقبل التأويل ومرتبطة بالقضاء، وأن تكون قرارات المنع شاملة في خارج البلاد، كما في داخلها ولو بالقانون.
بشار عباس