“كوكتيل” للدكتور اسكندر لوقا.. يختزل أمواج الحياة بين مدّ وجزر
شبه د. لوقا كتابه كوكتيل بالقطعة التي تتوسط القلادة على صدر امرأة هاربة من التاريخ لتحكي لنا كم هي عانت حتى لقيت دربها التي سارت عليه في رحاب حقل مليء بالشوك يدمي قدميها بدلاً عن امتلائه بأزهار الربيع،ويعدّ كتاب كوكتيل خلاصة تجربة الكاتب الطويلة في ميدان الحياة الاجتماعية والأدبية وفي معترك الحياة السياسية،نقرؤها في أسطر مكثفة تختزل الكثير من الأحداث والمعاني والأفكار والمشاعر،لكن الأمر اللافت أن الكاتب في هذا الكتاب خرج عن المألوف في تقديم كتاب متسق المسار يمضي وفق مسار معين أو وفق جنس أدبي محدد،إذ قسم إلى ثلاثة أقسام مختلفة من حيث البناء السردي ولغة التخاطب تشترك جميعها برؤيته جوانب الحياة من كل أبعادها كي يبحث القارئ عن نفسه في إحدى زوايا الكتاب،وقد يشعر بالغرابة لكنه يستسلم أخيراً لتشويق الصفحات التي تأخذه إلى عوالم غائبة عن مخيلته أو تركها محفوظة في أدراج ذاكرته،ليبقى قسم القصة القصيرة جداً الأجمل والأقرب إلى الذات.
الأمر اللافت أن الكاتب اعتمد على الترقيم بالأعداد وأغفل العناوين الصغيرة داخل الفصول والقصص،مع أن العنوان يحمل شحنة انفعالية لها دلالات إيحائية ودلالية ربما ليحفز القارئ على اختيار العنوان الذي يستشفه من النصّ المكثف.
أمور نسبية
أطلق الكاتب على القسم الأول عنوان “قطوف من شجرة الحياة” ليمتد مثل عرائش العنب ويتتالى عبْر فصول مرقمة من الواحد حتى السادس عشر، وهو نوع من النسبيات المتعلقة بصميم قضية ما وبعض المفاهيم مثل مفهوم الانتهازية الذي صار للأسف _كما كتب الكاتب _عاماً وشاملاً في عصرنا الحالي،فبيّن الكاتب حقيقة أولئك الأشخاص الذين يؤمنون بأن الفرصة المتاحة في حينها قد لاتتكرر وبأن عليهم اقتناص أية فرصة متاحة حتى في حال تعارضها مع القيم والمثل،اعتمد الكاتب في هذا القسم على أسلوب الإقناع والتحليل وإظهار البعد الخفي للمفردة المتمثل بالأثر السلوكي والنفسي لاتساع الدائرة بين الخير والشر،وعاد الكاتب في كثير من المواضع إلى تاريخ المجتمعات وخاطب القارئ بلغة الحكمة ليأخذ في مواضع أخرى وميضاً من المسلمات كما في قوله “الفرح إحساس ينبع من داخل ليعمّ أطراف الجسم كله كسريان الدم في الشرايين وكتدفق مياه النبع في أرض عطشى،وللفرح أكثر من وجه يعبّر به عن نفسه سواء من خلال ضحكة صاخبة أو بسمة صافية أو نظرة حانية أو لمسة قريبة”،ولجأ الكاتب إلى الأسلوب الإنشائي بطرح الأسئلة والإجابة عنها وإشراك القارئ بالعملية حينما تساءل عن الأطلال “ترى بماذا يفكر الإنسان عندما تقع عيناه على الأطلال في مكان ما على سبيل المثال؟فيجيب:أحياناً نسمع البعض من الناس يرددون أن الأطلال هي عبارة عن كومة من الأحجار وأنها أفضل من الإنسان لأنها الأكثر بقاء منه،ولأنها الأقدر منه على تحدي تقلبات الزمان،لنصل في النهاية إلى رأيه بأن الأطلال هي في الأصل من صنع الإنسان وهو الذي أبدع آثار تدمر وبصرى وأفاميا،والأمر الملفت أن الكاتب أيضاً أورد أموراً تدعو إلى الضحك وتتعلق بالحظ كما ورد في إحدى الفقرات التي تتعلق بالقناعات الدراجة بأن رؤية الوجه القبيح مع خروج الإنسان من منزله إلى مقر عمله فأل غير مستحب لأنه لا يجلب الحظ.
النهاية الصادمة
شغل قسم القصة القصيرة جداً المساحة الأكبر من الكتاب لاسيما أنها جنس أدبي اختلف عليه الأدباء بين قبول ورفض كونها تعتمد على التكثيف والاختزال في سرد الحكائية،وتتفرد بخصائص لانتقاء مفردات دقيقة ترتبط بالمعنى المراد وتخفي وراءها المعاني الخفية،وتقوم على المفارقات بين حالين،ويمكننا عدّ هذا القسم من الكتاب مصدراً أساسياً لفنّ القصة القصيرة جداً بما أن الكاتب قدم خمسين قصةً،وقد نوّع بأسلوبه بتناول المقدمات الوصفية والزمانية والمكانية،وتضمنت بعض القصص حوارية صغيرة تنساق ضمن السرد الحكائي المكثف،وامتلك الكاتب القدرة على إيجاد النهاية التصادمية التي تشكّل صدمة للقارئ وهذه سمة إنجاح القصة القصيرة جداً،بدأ بالزمن الماضي ليدخل القارئ إلى مفاجأة الحاضر وأحياناً يعود في النهاية إلى الماضي أيضاً ليظهر مساحة الزمن المعتمد على التضادات،بُنيت القصص على ركائز اجتماعية ونفسية بلغة واقعية،وإن جنح في بعضها الآخر نحو ومضات واخزة بإطار رومانسي يقترب من أدب البحر الذي كان شاهداً على الأحداث،كما في القصة رقم 9.
تنوعت القصص فبعضها انضوى تحت أعباء الأسرة ومسؤولية الأب تجاه أبنائه،وأخرى تعزز فكرة الانتماء إلى الوطن والتشبث بالأرض،ولم تكن القضية الفلسطينية غائبة عن محور القصص،فإحدى القصص سردت حكاية امرأة أخرجها الصهاينة عنوةً من منزلها ثم فجروه،وأصرت على البقاء على بساط من القش بجانب الجدار المتبقي لتنتهي القصة “كانت كلما سُئلت لماذا لاتغادر مكانها أجابت سيعود لابد أن يعود”،ونلمح حزناً ممزوجاً بتساؤلات خفية كما في قصة الغسالة التي قضت على امرأة مسكينة كانت تعيش من عملها كغسالة،وفي منحى آخر اقترب من التردد الذي يخفي مشاعر دفينة تودي إلى السكوت عن الجريمة بالتباطؤ باتخاذ القرار،وبعض القصص طالت الأعراف والتقاليد التي تحكم قبضتها على الإنسان وخاصة المرأة وتجعلها أسيرة لها،فتقبل على الزواج من أي رجل حتى تتخلص من براثن الأقوال مثل مقولة “فاتها القطار”.
أما الحب فشغل مساحة كبيرة من القصص وجاء بصور متعددة مغرقة بالحزن وبألم الانكسار العاطفي،كما حفلت القصص بنوع من التهكم والسخرية.
من نافذتي
قد يجد القارئ تقاطعاً ما بين القسم الأول والقسم الثالث لكنه سرعان ما يغيّر رأيه لأن القسم الثالث يُعنى بالعموميات أكثر ويتطرق إلى العلاقات بين الدول والمجتمعات ومواجهة المشكلات العالقة،هي مجموعة شواهد أوردها الكاتب متتابعة وفق السياق الزمني لعامي (2011-2012)،وأقوال اعتاد الكاتب أن يطلق عليها من نافذتي مثل القول رقم 3 2011 “من حيث المبدأ يمكننا القول إن الحاجز بين السلام والاستسلام متين إلى درجة يصعب إسقاطه بسهولة،ومثل هذا الحاجز هو الذي يقف حقاً عائقاً بين الأمن وانعدامه،كما بين الحرية والعبودية”.
جاء الكتاب بـ 208 من القطع الكبير –صادر عن دار الشرق للطباعة والنشر
ملده شويكاني