ثقافة

محاولاً رأب الصدوع والتمزقات.. المسرح يُتقن طرح أسئلة الحرب

بالرغم من التشكيك المتكرر في صحة الأحداث التي ترويها الإلياذة، حيث صورت حصار مدينة طروادة الذي استمر لمدة عشر سنوات في زمن سبق الميلاد كثيراً، إلا أنها بقيت تشكل حتى اليوم مادة غنية لأعمالٍ درامية يترقبها جمهور المسرح كما السينما ويقبل عليها بشغفٍ شديد، كان آخرها ربما العمل الذي قدمه مسرح مارينسكي التابع لمدينة بطرسبرغ الروسية، بعنوان “أهالي طروادة” والتي عُرضت على مسارح أوروبية عديدة. كانت عبارة عن إدانة مباشرة للحروب بمجملها، حيث باشتعالها، تضرم النيران في المجتمعات على اختلاف ساحاتها، وتباين أزمنتها، تدمّر البلدان وتطحن البشرية، وتسقط في طريقها ضحاياها من الأبرياء.
عمق الصراعات
ذلك بالطبع لأن الدراما عموماً والمسرح بشكل خاص والذي هو أبو الفنون جميعها، ارتبط على الدوام بحركة المجتمعات البشرية وما تمر به من ظروف، فهو لم يكن يوماً إلّا غارقاً في عمق الصراعات المجتمعية والتجاذبات التي تعيشها، بالتالي هو ما يجعل للحروب والأزمات تأثيرها المباشر على حركة الإبداع الدرامي، لا يتوقف على الزمن الآني والمرحلي، بل يتجاوزها ممتداً إلى أزمنة بعيدة جداً، وهو أمر لمسناه بشكل جلي في أعمال مسرحية تتحدث أو تتناول الحرب العالمية الأولى والتي كانت وضعت أوزارها في العام 1918، منها ما قدمه الروائي أنطونيو جالا في عمله المسرحي “نوفمبر وقليل من العشب” حيث يقرأ فيها أحداث الحرب الأهلية الإسبانية التي استمرت مخلّفة آثارها لنا بعد نهايتها بسنوات، بالرغم من ولادته بعد نهايتها بعشرة أعوام أو يزيد، بينما أسس بيكاستور لمسرح مختلف شكّل نوعاً من المسرح الوثائقي واعتمد توثيق عيوب وآثار الحرب، في حين ذهب بريخت إلى خيار مختلف مقدماً نصوصاً أكثر التصاقاً بقضايا المجتمع كانت مادة للكثير من العروض المسرحية، كما في “أنتيغون” و”دائرة الطباشير القوقازية” بحكايتها المعروفة عالمياً حول الطفل الذي تخلّى عنه والداه الملك والملكة وهربا خارج البلاد إثر اندلاع أحداث الثورة التي أطاحت بالحكم؛ حينها تلقفته الخادمة وتولّت احتضانه ورعايته كابن لها؛ إلى أن هدأت الأحوال والبلاد؛ وعادت أمور الحكم للملك وزوجته التي سارعت لمحاولة استعادة ابنها؛ الأمر الذي رفضته الأم البديلة فتمسكت بالصغير؛ ما يستدعي من الطرفين الاحتكام إلى القاضي الذي يوجه بوصلة العدالة إلى من تعبت واحتضنت ورعت الطفل بغض النظر عن ظروف الأحداث وتبعاتها.

ما خلف الحكاية
الحكاية ذاتها شكّلت أساساً لعملٍ مسرحي ملفت قدّمه الفنان أيمن زيدان تناول فيه الأمر كواحدٍ من الآثار التي تتركها الحروب والأزمات الكبرى على المجتمعات، مبتعداً عن المباشرة إلى الواقع المُعاش على الأرض في الطرح، تاركاً مهمة قراءة العمل المفتوح على  كل الأزمنة للمشاهد الواعي؛ يلتقط الإشارة وما خلف الحكاية، وكون العمل الأصلي يتحدث بشكل واضح عن تأثيرات الحروب الواقعة على الإنسان والحياة كلها بكل تفاصيلها، قدّمها زيدان دونما إسقاطات مباشرة على ما نعيشه اليوم، بلغة أتت فصيحة يتخللها نثرات من المفردات المحلية لا بد أنها لمست مواضع الوجع في المشاهد السوري.
و”دائرة الطباشير” لم تكن العمل الوحيد الذي قارب الحرب وتبعاتها خلال هذه المرحلة فقد تعددت الأعمال على تعدد مستويات الطرح، فأتى العمل الذي قدّمه الفنان حازم حداد تحت اسم “قهوة مرة” في عرضٍ درامي متكامل من تأليفه وإخراجه وأدائه على شكل مونودراما ربما تخلل العمل بعض الهنات، إلا أنه تمكّن خلاله من امتلاك خشبة المسرح بالكامل مسيطراً عليها، تعامل مع شخوصه الافتراضية بحرفية عالية، ما فيه دلالة على قدرة الإنسان بشكل عام، والفنان بشكل خاص على تجاوز الصعاب واثبات الوجود وإمكانيته العمل في أحلك الظروف لإيصال الرسالة بأن لا كرامة لإنسان خارج وطنه، ولا أغلى من تراب هذا الوطن.

هجاء وهجوم
في عرض آخر من إخراج سامي نوفل أتت مونودراما “إعادة تدوير” كتبها وروى أحداثها على الخشبة الفنان أسامة جنيد بلسان “سعدي أبو السعود” مدرس التاريخ الذي قرر التخلي عن مهنته لصالح جمع القمامة مع صديقه أبو النور حيث جعلت منه الحرب ورقة في مهب رياحها وأخذته في رحلة غرائبية من اعتقاله في سجن غوانتانامو وعملية الفرار التي يعترضها على الحدود رجال دولة “داعش” وما يتعرض له من أحداث متتالية، في عرضٍ استخدم المونودراما حيناً وأسلوب المونولوجست الضاحك حيناً آخر؛ في تجسيدٍ لواقع الحروب التي جعلت من إنساننا عرضة لهزائم وانكسارات كثيرة حيث الجرح دواؤه جرحاً أكبر؛ في أداءٍ لافت لـ”جنيد” استحوذ انتباه جمهور صالة القباني مدة العرض التي قاربت الساعة استعان خلاله بشاشة لعرض صور فوتوغرافية ومقاطع فيديو لأبنية ومدناً تتهدم بمجرد “كبسة زر” ما جعل المسرحية وسيلة هجاء وهجوم على الحروب وتجارها، بدءاً من أفغانستان وما أفرزته مروراً بحرب العراق إلى كل بقعة مرت بها الحرب وصولاً إلى ما يجري على الأرض السورية.

رسالة دفاع
في عمل مختلف ذاهب باتجاه آخر عمد الكاتب المسرحي جوان جان إلى اقتباس نص مسرحيته “هوب هوب” عن قصة “الجزيرة القرمزية” للكاتب الروسي ميخائيل بولغاكوف في تعديلٍ واضح للقصة ورسالة صريحة أن “هذا الوطن إنما هو قائم على آلاف السنين من الحضارة عِمادها تجانس حقيقي لهذا التنوع والتعدد بين الأديان والمعتقدات والاتجاهات السياسية المختلفة” وأن هذا التنوع والتجانس هو ما تم التصويب عليه سابقاً ويستهدف اليوم بوضوح.
المسرحية التي أخرجها عجاج سليم، كانت نوعاً من مسرحٍ واقعي لفرقة فنية تحضر لعروضها، وبينما الخلافات دائرة بين المخرج والكاتب ومجموع الممثلين يقتحم التحضيرات متعهد حفلات يعمد إلى إغراء المخرج بالانتقال بالعرض إلى مكان مختلفٍ هو “أمريكا” الأمر الذي يأخذ العرض باتجاهات أخرى حيث لا بد من تعديلات أساسية تتسبب بصراعٍ ينشأ بين أفراد الفرقة تصل بهم في النهاية لرفض العرض، الأمر الذي يحتال عليه المتعهد الذي لا يقبل بالهزيمة فيلجأ إلى الحيلة بتعديل وجهة السفر إلى روسيا مع ما يستدعيه الأمر من تعديلات مناسبة للوجهة الأخرى.
العمل برمته أتى مناسباً للحدث الذي نعيشه من حرب حقيقية تجري على الأرض، وحرب إعلامية موازية، تفوّقت في شراستها على كل ما هو تقليدي، فكانت كوميديا راقية استطاعت أن تكون فسحة أخرجت المشاهد من أجواء المعاناة اليومية إلى نوع من المتعة والبهجة، ورسالة دفاع عن هذه الأرض المتكئة على آلاف مؤلفة من السنوات والحضارة الأصيلة بثقافاتها المتعددة، في مواجهة حرب عمدت إلى زرع نيران الفتنة والفُرقة وسيلةً لمحاولة تحطيم هذا الوطن الجميل.
هي غيض من فيض، أعمال مسرحية أتت متنوعة وبرسائل مختلفة، لكنها كانت المدخل كي نقول أنه علينا الاعتراف بأن أسئلة الحرب أسئلة ملحّة تنهش طويلاً وبقسوة في عقل وذاكرة من يعيشها أو من يعيش تبعاتها، تضيّق عليه الخناق والحياة؛ في ظلال تأثيراتها والخدوش التي تحدثها في النفس، بحثاً عن خلاصه؛ ووسيلةً لتجنيب الأجيال القادمة من أن تعاني بشاعتها، وبرغم من أنه لا أحد يستطيع الادعاء أن المسرح قادر على تقديم كل الأجوبة، أو أنه من خلال سحره يستطيع قلب المجتمعات وإصلاحها، لكنه يبقى فضاءً ساحراً متاحاً لرواده والمشتغلين به؛ لطرح كل تلك الاستفسارات وتسليط بعض من الضوء على الجروح والعيوب؛ مثبتاً كما قال سعد الله ونوس يوماً بأن المسرح شرط من شروط قيام المجتمعات، ومن خلال مهمته النقدية: “هو الذي سيدربنا، عبر المشاركة والأمثولة، على رأب الصدوع والتمزقات التي أصابت جسد الجماعة وهو الذي سيحيي الحوار الذي نفتقده جميعاً”.

بشرى الحكيم