تكـــرار .. ومولييـــر طليقـــاً
ربما أتاح عرض التخرج «تكرار» لطلاب حملة الاجازة في التمثيل للجمهور الكثيف والذي تابع العروض بشغف وترقب وانتباه، أبعد من فرجة مسرحية استثنائية وفي زمن استثنائي.
فقد قاد الفنان الكبير بسام كوسا طلابه إلى أزمنة موليير، واستطاع اسقاطها بما حملت من ثيمات «مولييرية» على الراهن والمعاصر، إذ إن الثقافات تتشابه بمشتركها الإنساني العابر للحدود واللغات، فما اصطفاه بسام كوسا مشرفاً سيخضع لتأويلات ما بعد العرض، ليس لخصوصية ذلك العرض وتداخل أزمنته، وتماثل مقولاته، بخلاصتها على لسان الراوية «لا جديد تحت الشمس» واختلاف وسائل الفناء والدماء والقتل، لكن النتيجة واحدة، وليس في متحذلقات موليير اللاتي شهدن مثيلاتهن في نسخ العرض وتبيئته، وتطييف مقولاته، أي العبور من زمن موليير إلى زمننا الراهن، ليس ذلك فحسب، بل إن القيم المضافة في «تكرار» سنجدها في الطريقة التي نُفذ بها العرض، وهي طريقة أتاحت لفريق العمل من الممثلين الواعدين والموهوبين، اشتقاق فهمه للثيمة المولييرية الفائضة على أزمنتها، وبمعنى آخر استنهاض قيم معرفية وأخلاقية دون أن يكون الخطاب هنا مباشراً تماماً، لأنه استدخل اللحظة المعاصرة وسمح للطلاب بالتنويع عليها، في نسيج درامي أكثر ما يلفت فيه، براعات فردية احترافية من شأنها أن تؤسس للعلاقة مع النص والخشبة والفضاء الثقافي الآخر، فـ «تكرار» في امتصاصه لرائعة موليير «المتحذلقات السخيفات» سعى لانفتاح دلالي أكثر، وفي حدود تجريبية سنرى أثرها في تشكيل العرض النهائي، وهذه التجريبية التي قامت على اشتقاق حداثة مسرحية متجاوِزِة لا تُختزل بانتهاء العرض، بل بشيوع أسئلة محايثة له، لا سيما حول النص المسند إليه –نص موليير- وحول الكيفيات المحتملة التي نُفذ بها العرض، وبقدر كبير من «الميزنسين» التشكيل الحركي والتنويع على الأزمنة، فضلاً عن تداخلها المقصود شكلاً ومضموناً، وهذه الأسئلة في الراهن المسرحي هي الأسئلة المولدة لتلك الحالة الحميمية التي استعاد بها المسرح جمهوره، على مدى أيام العرض وما تلاه، وبوسعنا القول هنا حول المعطى المسرحي، ليس من عرض التخرج، بل من ضرورة أن يعود المسرح معافى للذائقة الجمعية والفردية، وتعود ثقافة المسرح في تأسيسها وتأصيلها إلى واجهة مشهدنا الثقافي، الأمر الذي لا يعني امتداحاً مجانياً للعرض –تكرار- بقدر ما يعني مساءلة هوية المشروع الذي انطوت عليه تلك التجريبية اللافتة، وبما تعنيه من تثاقف وحوار ثقافي منتج لا يغيبُّ الخصوصيات، بقدر ما يقف على فرادتها في منتج مسرحي فارق ومختلف.
وفي ثقافة العرض سوف تلتقي الهواجس المؤسسة للأفكار بوصفها عابرة للغة، ومعادلة للواقع المعيش، لا سيما في ما نصطلح عليه «بالنمذجة» ومفارقة «التسذيج» وأكثر من ذلك فإن جمالية –تكرار- إذا كانت تستدعي محاكاة الأثر المولييري، والذي أحدث انقلاباً في الوعي وانفتاحاً في المضمرات التي حايثت ثقافة بعينها، فإن خطاب العرض الأكثر تنوعاً وامتداداً لزمن آخر، حمل معه -إن جاز التعبير- كل الحوافز التأليفية والواقعية والجمالية، بما يراكم في الوعي والذاكرة من أن العرض قد نجا وفي لحظتي تماثله واختلافه، من أن يكون عبوره مجانياً، وهذا يعني أن ذلك الجهد الجمعي هو جهد في تأصيل الحالة المسرحية، أكثر منها درس مسرحي ترتبط نتائجه بمستقبل واعد للطلاب الخريجين، على الرغم من أنه كان يمكن أن يُترك المشهد الأول وهو تكثيف فكرة العرض لنهايته، كي لا يُكشف العرض من عنوانه المباشر «تكرار»، لكن ذلك لا يعني على الاطلاق اختزال العرض، وفق موازنات لخصوصيات موليير وخصوصيات ما اُستدخل على النص، والذي رأينا مفارقته منذ المشهد الثاني والثالث، ليأتي العرض نسيجاً ثفافياً في المؤتلف والمختلف والتراكم الحامل لثقافة القيمة، وهجاء القبيح في الثقافة.
أحمد علي هلال