د.أحمد جديد بين وصفات المناعة الفكرية والتحصين الوطني والسلم الأهلي
ما الطريق إلى السلم الأهلي؟ السلم بمعناه السلمي أمنية غالية ورغبة أكيدة يتمناها كل إنسان يعيش في هذه الحياة الدنيا، والمدرك أن السلام كالحرب.. معركة لها جيوش وحشود وخطط وأهداف، لذلك، تبدأ الحاجة الآن أكثر من أي زمنٍ مضى إلى عقاقير التحصين الفكري أو ما يعرف بالمناعة الفكرية لحماية الأفراد والمجتمعات من آفة التطرف والتعصب والكراهية، وتوفير السلم الأهلي بين مكونات هذه المناعة.
يجب الاعتراف أن عملية التحصين الفكري لا تحصل بالقوة، وإنما بالقناعة، وهذه تحتاج إلى أساليب سلمية وليست عمليات إكراه وقسر، هذا المفهوم الذي يعتبر عصب توجه العقول التي تؤمن بثوابتِ الوطن وتعمل بما تملك من قوة إرادة على تجذير مفهوم التحصين الوطني لدى الناشئة،وتحصين الساحة الوطنية والجبهة الداخلية من كل ما يعملُ على إضعافها.
وعليه، قدم د. أحمد جديد محاضرة عن “التحصين الوطني والسلم الأهلي درع الوطن” في المركز الثقافي العربي في طرطوس عرض من خلالها رؤاه الفلسفية والتفسيرية الاستنباطية من خلال دراسة الأسباب الكامنة والتي كانت الحامل الداخلي الذي شكل حصان طروادة للغزو الخارجي، متسائلا كيف استطاع الغرب وقواه الإقليمية جذب بعض الداخل إلى مشاريعه وجعله يدمر بلده ويقتل إخوته.؟ حاول الباحث من خلال مقاربات مباشرة تشخيص أهمية السلم الاجتماعي في التخفيف من حدة التطرف الفكري والديني وكيفية توجيه الطاقات نحو دحض فِرْيَة الإرهاب عن الوطن، ووفق منظومة خلق المناعة الوطنية والأخلاقية والقيمية ووفق كل ما حصل يؤكدُ إن السّلم الأهلي ليس مسألةً يمكن التهاونُ بشأنها من قبلِ أيِّ فردٍ، فبناء الجدار الصلب للوحدة الوطنية مسؤولية كل مواطن.
يطرح د. أحمد في محاضرته عقاقيره الطبية وفق مفهومه للسلم الأهلي من حيث ضرورته وقيمته ومكوناته كمسألة من مسائل القضايا الجوهرية الواقعية بعيدا عن خطاب مثالي يغفل جذر المشكلة ويتعالى فوق حلولها الدنيوية والمدنية. وأشار إلى أن ضرورة ربط السلم الأهلي بالأمن الاجتماعي مسألة علمية اقتصادية واجتماعية وطنية، فالفرد المواطن كيان مستقل له حاجاته وضرورات حياتية قبل تحديد انتماءاته الإثنية والدينية والمذهبية، وعلية فقضية السلم الأهلي والأمن الاجتماعي قضايا وطنية رئيسة تعلو فوق منطق وخطاب التقسيمات الجهوية أو السياسية والحزبية والدينية.
ويشخص د. “جديد ” واقع ما نراه من تطرف وتشدد في الأفكار من قبل بعض الجماعات بأنها مجموعات إجرامية ليس لها صلة بالدين والتدين وأنها أصبحت بفعل أساليبها الإجرامية ودعواتها العنيفة خارجة عن دائرة الوجود الإنساني، ويضيف منبهاً إلى أنه مع انتشار وسائل الإعلام الحديث أصبح هناك ارتباط بين التدين والتطرف وليس الأمر كذلك فما تنزل الدين إلا لإقامة العدل: (ولقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط)، لأن القوة الأساسية التي تسهم في تسيير المجتمعات هي قوة الثقافة التي تعزز ثقافة السلم الأهلي الاجتماعي والتي ترسخ مفاهيم سليمة تعزز لغة الحوار بين الشباب وتعزيز دورهم في نشر مفاهيم تقبل الآخر بعيداً عن العنف والتركيز على ثقافة التسامح. وإطلاق العمل في سبيل إرساء السلم الأهلي الدائم من قاعدة عملية وهي أن الحرب الأهلية أو الداخلية في المجتمع خسارة لكل الأطراف، أيا كانت الأهداف أو القضية التي تتلبّس بها هذه الحرب أو تسعى للدفاع عنها، لأن هذا النوع من الحروب في الواقع الدولي هو مصدر شرور أخرى داخلية وإقليمية و دولية. ويقول في جانب آخر، “لا حضارة بدون سلم أهلي ولا تطور بدون استقرار مجتمعي” حيث أكد على القول تضيع العبقرية في بلاد يحاربها ذوو الجهل الأثيم). وانطلاقاً من أن السلم الأهلي هو حق لكل إنسان، وعنصر حيوي وأساسي في حماية وتقدم نوعية الحياة، وضرورة حتمية لاستقرار الوطن سلط الضوء على ضرورة تحصين السلم الأهلي في الدستور السوري، لذلك شدد على الإحيائية القيمية المجتمعية لمجمل حياتنا معتبرا نجاح أية قوة حضارية واستمرارها في الهيمنة لا يرتبط بقوتها الصلبة بقدر ما يرتبط بقوتها الثقافية، “من خلال تهيئة كادر تعليمي قادر على قيادة جيل قادر على توجيه نشاطاته ومواهبه، وبشكل إيجابي وقادر على زرع التسامح والتلاقي والنقاش والحوار الفعال ونبذ العنف والتعصب بكل أشكاله، والقوة الثقافية المقصودة ليس مضمونها الفكري والقيمي والديني، وإنما أساليب نشرها وتعميمها وتحصينها من المخاطر التي تحيق بها..
وعلى وفق ما تقدم نقول: إن السلم هو الحرية الوحيدة في هذا العالم في نظر جبران خليل جبران لأنها ترفع النفس إلى مقام سام لا تبلغه شرائع البشر وتقاليدهم، ولا تسوده نواميس الطبيعة وأحكامها.
فيما أرى محتويات المحاضرة وأعني به ذاك الوارد في عبارة شهيرة لغرامشي: «إن القديم يموت، ولكن الجديد لا يستطيع أن يولد».
خلاصة القول: إن أولى أولويات ترسيخ مفهوم وثقافة السلم الأهلي والمجتمعي تستدعي أن يكون انتماء جميع أبناء الوطن الواحد لوطنهم قبل أية انتماءات أخرى، لأن تطور الإنسانية سائر حتما في طريق ازدياد التعاطف وترقي الإيثار، في حين أن الأنانية وانعدام المشاعر التعاطفية يمثلان ظاهرة تخلفية تعبر عن ضرب من النكسة أو الارتداد نحو طور المشاعية، وما دامت الإنسانية سائرة في طريق التقدم، فان الهدف المثالي الذي تسعى سائر الجماعات نحو بلوغه هو القضاء على الحروب، وتحقيق الاستقرار الصناعي، وتوفير أسباب التوازن الاجتماعي ولا يتحقق هذا إلا من خلال السلم الاجتماعي، فالسلام هو الأم المرضعة لكل وطن في كل زمانٍ ومكان.
أحلام غانم