الانقلاب رهاناً.. من “البصرة” إلى “الحديدة”
ربما كان الخطأ الأكبر الذي وقع، ويقع فيه البعض هو النظر إلى أحداث المنطقة بصورة منفصلة، وكأن أحدها يحدث في كوكب، فيما الثاني يحدث في كوكب آخر، دون أية صلة أو رابط فيما بينها، أو كأن الصدفة هي الحاكم الوحيد لما يحدث في المنطقة والعالم، فيما الحقيقة التي لم يعد أحد يماري فيها هي أن التاريخ لا تحرّكه الصدفة، وللأسف فإن ذلك هو ديدن العرب الذين اعتادوا أن يقرؤوا التاريخ بوصفه “أياماً” منفصلة، لا سلسلة أحداث مترابطة ترابط السبب بالنتيجة، وكانت النتيجة أنهم خرجوا من التاريخ.. أو يكادون.
فما حصل خلال الأيام الماضية من “خراب البصرة” العراقية إلى استئناف “غزوة الحديدة” اليمنية بعد إفشال “جنيف اليمني” الثالث، مروراً بمجزرة القامشلي السورية، كان خطوات مترابطة من واشنطن وأتباعها للانقلاب – بأدوات وأساليب مختلفة – على المسار السياسي والعسكري الذي تسير فيه المنطقة وقواها الحيّة منذ فترة، وهو مسار ستكون “إدلب”، وعلى مستوى المنطقة بأكملها، لحظته الفاصلة بامتياز.
انقلاب انطلق بيانه الأول من قصة “الكيماوي”، ثم تتالت الخطوات على مستوى المنطقة والعالم في إطار مزيج مركّب من الحرب الناعمة والخشنة، فتحرّك مجلس الأمن الدولي خوفاً على المدنيين – يريد لهم البقاء تحت حكم القاعدة – وارتفع صوت لندن مجدداً في قضية “سكريبال” لإرباك روسيا وتجريم قادتها، وأُشعل فتيل “البصرة” لتثبيت منظومة سياسية تابعة هناك، و”البصرة” بالأصل “وجع” مؤلم كامن كالجمر تحت الرماد وتلك قصة أخرى، وعادت أصوات وأوهام، وأفعال، الانفصاليين الاستيطانيين في سورية للارتفاع، وأُسرت حكومة لبنان العتيدة رهينة عند الرياض وواشنطن لاستخدامها في الانقلاب على نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة، وللسبب ذاته أُيقظت المحكمة الدولية من غفوتها بعد رقاد طويل، وبالطبع انطلقت ألسنة بقية الجوقة المعروفة إياها من “مثقفين” وفقهاء السلطان يستعيضون عن فقر، بالأحرى انعدام الإنتاج الفكري التنويري والتجديدي المفترض، بثقافة تلوين راية المحتل بشعارات الإنسان وحقوقه، كما في الترويج لـ”القدر” الأمريكي انطلاقاً من نظرية “الصفر الاستعماري” الشهيرة.
هو، إذاً، رهان قديم يتجدّد على انقلاب جديد ونهائي، وإذا كان ذلك حقاً للأمريكي، فما بال بعضنا يشاركه رهانه القاتل؟، متغاضياً عن حقيقتين واضحتين وضوح الشمس: الأولى أن هذا الانقلاب هو الطلقة شبه الأخيرة في جعبة الأمريكي، والثانية أن الدروس التاريخية لمصير الأتباع لا يمكن حصرها وخاصة درس “فيتنام” حين هرب “اليانكي” من فوق سطح السفارة تاركاً أدواته المحلية على الأرض لمواجهة مصيرهم المحتوم، وهذا درس يتطلب من العقلاء، إن وجدوا، تدارك الأمر قبل أن تتحوّل أخطاؤهم إلى خطايا نتيجة حساباتهم السياسية القاصرة، وعليهم أن يسألوا أنفسهم ما الذي ستفعله واشنطن بهم لاحقاً، إذا كانت قد حوّلت حليفها وشريكها الاستراتيجي الأهم، أوروبا، إلى “متسوّل سياسي فقد تأثيره” كما قال مسؤول ألماني؟؟!!، خاصة في ظل رجل وصلت الحرب ضده إلى قلب بيته الأبيض، سواء من خونة، كما يسمّيهم، أم مقاومين، كما يسمّون أنفسهم، وتلك معركة سيخسرها إن لم يشعل غيرها ضد عدو خارجي، وهي حرب لن يكونوا فيها -مهما طالت وبغض النظر عن نتائجها الآنية- سوى عملاء أو دمى متناثرة يسهل التخلص منها في حالتي الربح والخسارة.
وكما في “البصرة” كذلك في اليمن ولبنان وسورية، المطلوب واحد، يجب على البعض اتخاذ قرارات استراتيجية حاسمة بشأن تموضعهم النهائي، ووضع “خارطة طريق” للسير بعيداً عن الرهان الانقلابي لصاحب النهج “البائس والمتهوّر” الذي يراه الموظفون في البيت الأبيض “خطراً على الأمة”، ويصفون فترته “بالفترة الفوضوية”، والعودة للرهان على أبناء وطنهم وجلدتهم فقط لا غير، وإلّا فإن التاريخ لن يرحم من لم يقرأه جيداً، ويستفيد من دروسه وعبره.
أحمد حسن