الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

الكائن النوراني..!

 

حسن حميد

دائماً، تمنحنا الحياة، وإن على ندرة، أحداثاً، وكتباً، وفنوناً، وأعلاماً، تصير مفردات نادرة لأن فيها من الواقعية والسحرية العجائبية والفذاذة ما يحفظها آبدة كيفما جالت الأحوال أو كرّت الأيام، ومن هؤلاء الأعلام، نلسون مانديلا، ابن جنوب أفريقيا الذي عاش حرائق التمييز العنصري وويلاته سنوات طوالاً، وجالس مقاعد الدرس، وحارات الفقر، والأحاديث، والكتب، ووعى آهات الخلق من حوله، والبكاء الخافت /العالي في الليل، وواقف سير الذين نقشوا أسماءهم في كتب البلدان، عرف غاندي في المأكل والملبس والطريق والرؤيا، وعاش ظروف لينين الذي وقف على صخرة العبودية منادياً بكسرها، وتأمل ما فعله أهل كوبا من صنائع مذهلات، وما آمنوا به من حقوق وقيم، واستغرقته أحداث بلدان أفريقيا وما شالت به همم قادتها وهم يواجهون الظلم الغربي الباطش، وما بنوه، وما نادوا وحلموا به في زمن عهد دولة الاستقلال.

نلسون مانديلا، الطفل الذي عاش المدرسة والتعليم والكتب كي ينير روحه وهو يمشي في ظلال ما آمن به: (الحرية للشعب، ولا للظلم)، حيّد كل شيء من أجل أن يقوّي عزيمته، ويكاثر أعداد أنصار الوطنية انطلاقاً من قولته: لا فرح، ولا سعادة والظلم يشيع في البلاد مثل الهواء، وأن الظلم، وعلى الرغم من تشكيلاته المخيفة ليس هو أكثر من فزاعة حين تشرق شمس الحقيقة، وحين تطلع نهارات الشعوب والأمم وتستوي علواً بنورها الشارق!

أوذي، وطورد، وحرم، وضُيّق عليه، ومنع من أن يعيش حقه في الهواء، من أن يتذوق حلاوة طعوم اسم بلده، فأودع السجن والزنازين وعُذب حتى صار صراخه صراخ الوحوش، ولم يفارق ما آمن به، فظلَّ صوته عالياً منادياً: بلادي، بلادي!

ظلموت قاهر أحاط به، وحطَّ عليه، ومع ذلك لم تقطع الطريق إليه، فقد ظلّت رافدة للذين آمنوا بقولاته ورسالته الوطنية من أجل عزة لا أبدى منها ولا أجمل هي العزة الوطنية. أهله الذين أحبوه وضعوا أمامه المرايا التي صنعها الاستعمار البريطاني الذي أناخ على صدر جنوب أفريقيا قرابة أربعة قرون كي يبصر ويعي ويدرك جبروت هذا الاستعمار وما صنعه من قوانين وأوامر جائرة، وما ابتدعه من أساليب وطرق تمكنه من إخضاع الناس وإماتتهم جسدياً وروحياً، وما سيّله من إغراءات كيما يجذب الآخرين إليه ليصيروا دُمى بين يديه، وقدموا إليه، وفي المواجهة تماماً، المرايا التي تدلل على تهافت بعض أبناء البلد وحالات سقوطهم في الشباك الانكليزية، أو ارتماء الكثير منهم على أعواد الدبق الانكليزية بوصفها المصائد التي صنعها للذين لم يعرفوا الحذر يوماً، أو الوعي الوطني ولو في عتباته الأولى.. وعلى الرغم من كثرة المرايا التي تؤكد أمرين اثنين: قوة الانكليز ونفوذهم من جهة، وخذلان أهل المصالح السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية من أبناء بلده من جهة أخرى، إلا أنه ظلَّ مانديلا الثائر على العنصرية، والتمييز بين جغرافية وجغرافية، ولون وآخر، ومواطنة ومواطنة! لم ترعبه المرايا على ما فيها من احتشاد للقوة المذهلة، ولم تهوِ به حالات الانطفاء والارتماء والهوان التي عاشها بعض أبناء بلاده الذين غيبوا مصالح البلاد، والتاريخ، والوطنية، والقيم.. في بطن المستعمر الذي تغوّل إلى حدّ الظن أن توحشه باقٍ إلى أبد الآبدين.

سنوات، قاربت نصف عمره، قضاها مانديلا سجيناً في زنزانة آخى فيها أحلامه فصلّبها قوةً وصلّبته، وحين خرج منتصراً صار علماً من أعلام الوطنية، وجهة للمثال، وصارت زنزانته محجاً لظالميه.. كيما يروا طيوف الظلم والاضطهاد وصورهما والأدراج التي بناها مانديلا داخل زنزانته ليصير كائناً من كائنات الأرض الممسوسة بنورانية السماء.

Hasanhamid55@yahoo.com