الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

ذلك المساء الطويل (3)

د. نضال الصالح

مع ما خفّ حمله وغلا ثمنه، وأبي وأمي وشقيقي وأنا، وفي وقت مبكّر من الصباح، كنّا ننهب بسيارة أبي الطريق إلى دمشق، ومنها إلى بيروت حيث كان عمّي محمود، شقيق أبي الأكبر، استقرّ فيها منذ ما يزيد على ثلاثين سنة بعد أن كانت بيروتية سحرته، فوافق على شرطها الأول للزواج، أي أن يشتري بيتاً لها هناك، ويستقرا فيها، ويترددا على درعا بين وقت وآخر لمتابعة حصّته من محصول الأرض التي ورثها عن جدّي، والتي كانت مضرب المثل في وفرة إنتاجها كلّ عام.

أردتُ أن أقاطع جُمان وهي تحكي عن عمّها وزوجته، فأقول لها: لا بدّ أنّ زوجة عمّها تشبهها في السحر، وأنّ عمّها كان على حقّ عندما وافقها على شرطها، وإنّها، أعني جُمان، لو اشترطت عليّ أن أبيع الدنيا وما فيها لأمضي العمر معها لما ترددت، فبمثلها ولمثلها يليق ذلك. لكنني لم أفعل، ولم أشأ أن أقطع عليها تدفّقها في استعادة حكاية السنوات الثماني التي مضت من حياتها، والتي انتهت بأسرتها جميعاً، بما في ذلك فيصل الذي كان رفض مغادرة درعا في البداية، إلى التفرّق في غير مكان من بلاد الله الواسعة، والأضيق من خرم إبرة، بتعبير جُمان، بعد درعا، بل بعد ذلك الحيّ الذي احتضن طفولتها وصباها. وبينما هي تنهمر في الحديث، وبينما أنا شغوف بصوتيهما معاً، صوت الضوء الفاتن في ملامحها وصوت الشجن في حديثها، كنت أستعيد قول الشاعر أبي تمام الذي تنتسب جُمان إليه، كما روى والدها له ذات يوم: “كم منزل في الأرض يألفه الفتى/ وحنينه أبداً لأوّل منزل”، ثمّ ألجم نزق دمعتين في أعماق روحي وأنا أتذكر ما حلّ بمدينتي من الخراب والدمار، بل ببيتي نفسه الذي لم يعد له من صفة البيت أيّ نصيب.

رفعت جُمان فنجان القهوة إلى فمها، وسكبت صقيعه في جوفها كما لو أنها تطفئ لظى لهيب طائش في خلاياها كلّها وهي تحكي، بل وهي تمضي في الحديث عن ذلك المساء الطويل الذي لم تكن تقدّر، كما لم يكن أحد من أفراد أسرتها يقدّر، أن يستمرّ هذه السنوات الثماني كلّها، ولا تعرف، ولا يعرف أحد، متى سينجلي الصبح عنه، فتستعيد البلاد معناها الذي كان، حيث للمساءات معناها، وللصباحات، وللأيام، ولكلّ شيء.

قلت: هل أطلب لك فنجان قهوة آخر؟ فقالت: “لا يرويني محيط من القهوة، ولا ماء، ولا أي شراب، يا أستاذ، كأس ماء، نصف كأس ماء، ملعقة صغيرة من ماء البلد وحدها، ملعقة كتلك التي توضع في علب الدواء، ترمّد هذا الجمر الذي لا يكفّ عن الصخب في جسدي كله منذ نحو ثماني سنوات، بل منذ ذلك المساء الذي لم أنس، ولن أنسى”. وبعد أن رأتني أرفع علبة السكائر بين يدي، مدّت يمينها إليها، ووضعتها أمامها، وهي تقول: “كفى تدخيناً يا أستاذ، كفى، أنت تقتل نفسك”، وكنت أردد لنفسي: “فليكن يا جُمان، فليكن، أيّ معنى للحياة ولم يعد لدى رجل مثلي على أعتاب الأربعين بيت، ولا أم ولا أب ولا أخوة، ولا.. أي معنى للحياة وقد طحنت رحى الحرب كل شيء!”… (يتبع).