القومية البريطانية يحييها الفاشيون
إعداد: لمى عجاج
كشف البرلمان البريطاني عن ملفٍ يحمل تصنيف رسمي – وحساس أطلق عليه رمزياً اسم ” المطرقة الصفراء” تحدث هذا الملف عن أن المملكة المتحدة ستواجه كارثة كبرى وبأنها تتعرض لجملة من الدسائس من قبل الفاشيين البريطانيين الذين يشكلون الأغلبية في حكومة المحافظين بزعامة رئيس الوزراء بوريس جونسون حيث أظهرت ” المطرقة الصفراء” في تسريباتها توقعات عن حجم الفوضى الاقتصادية والاجتماعية التي ستواجهها المملكة المتحدة بمجرد خروج بريطانيا الصعب من الاتحاد الأوروبي (البريكست) وبأنه سيكون من أسوأ السيناريوهات على الإطلاق والتي ستحمل معها عواقب وخيمة على سيادة القانون والديمقراطية في جميع أنحاء المملكة المتحدة.
لطالما كانت الفوضى الوسط المناسب الذي يتغذى عليه الفاشيون لهذا كان لزعيم الاتحاد البريطاني للفاشيين أوزوالد موسلي وجهة النظر عينها قبل الحرب وأثناء الحرب، فهو من اعتبر أن النظام يمكن أن ينشأ من الفوضى ولعل زملاء موسلي في العصر الحديث يشاركونه ذات الرأي من أمثال جونسون، وزعيم حزب البريكست نايجل فراج، وزعيم مجلس العموم يعقوب ريز موغ، ووزير الداخلية بريتي باتيل وآخرين، الذين أرادوا اختلاق فوضى من نوعٍ جديد من خلال خروج بريطانيا الصعب من الاتحاد الأوروبي، الفوضى التي ستُمكن هؤلاء الفاشيين الأوائل من تحقيق هدفهم المنتظر المتمثل بسلطة مطلقة ونظام غير قابل للمسائلة عقب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أي أن تسود القومية الانكليزية اليمينية المتطرفة في المملكة المتحدة، ففي آب من هذا العام وقّع 113 عضو من أعضاء البرلمان البريطاني خطاباً إلى جونسون اتهموه فيه بنشر لغة “الفاشية والسلطوية” والمضي قدماً في خططه للخروج من الاتحاد الأوروبي بلا صفقة، بعد أن امتلك جونسون البرلمان وسيطر عليه لمدة خمسة أسابيع، ما أدى إلى عرقلة مساعي النواب لتأجيل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أمام الموالين للاتحاد الأوروبي الذين قام جونسون بطردهم من حزب المحافظين وأيضاً أمام نواب من حزب العمل المعارض والليبرالي الديمقراطي والأخضر والأسكتلندي الوطني والتغيير وأحزاب بليد كمرو الويلزية في خطوة تحاكي الفاشية، ما دفع المتمردين المحافظين وغيرهم من النواب إلى التشكيك في التزام جونسون بالديمقراطية.
حملت وثيقة “المطرقة الصفراء” في طياتها أسوأ السيناريوهات الكارثية التي سيكون لها أشد التأثير على الاستقرار الاقتصادي والسياسي في المملكة المتحدة بمجرد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ومع هذا فقد كانت أخف وطأً من تقرير سري آخر عن البريكست حمل اسماً رمزياً بعنوان “البجعة السوداء” تنبأ هذا التقرير بسيناريو يوم القيامة للمملكة المتحدة على غرار ما حصل خلال الحرب العالمية الثانية من نقص في الغذاء والوقود على مستوى البلاد وشح في الأدوية والمستلزمات الطبية وارتفاع في معدلات البطالة وتعطيل في المواصلات واحتجاجات جماعية.
إن ما تعانيه المملكة المتحدة اليوم لا يختلف كثيراً عما حدث في تشيلي خلال الثمانية عشر شهراً قبل الانقلاب العسكري الفاشي الذي وقع في 11أيلول 1973 والذي أطاح بالرئيس الاشتراكي سلفادور أليندي، ففي عام 1972 بدأت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية تحت قيادة يمينية مؤيدة لهنري كيسنجر تضم نائب المدير فيرنون والترز ورئيس مكافحة التجسس جيمس جيسس أنغليتون نائب مدير الخطط وتوماس كاراميسين ورئيس شعبة نصف الكرة الغربي تيودور شاكلي مشروع FUBELT الاستخباراتي حيث عمل نشطاء وكالة المخابرات المركزية في تشيلي على إثارة الإضرابات العمالية في محاولة لتقويض حكومة الليندي، أدت الإضرابات التي قام بها سائقو الشاحنات وسائقو سيارات الأجرة وأصحاب المتاجر وعمال ذوي الياقات البيضاء إلى خلق مناخ للانقلاب الفاشي. وهذا تماماً ما نراه اليوم من خلال المكائد التي يقوم بها اليمينيون في المناصب العليا داخل وكالة الاستخبارات المركزية التي تضم هاسبل وبومبيو ونائب الرئيس مايك بينس التي تطبق في فنزويلا قالب الفوضى الاقتصادية، الشبيه بذاك الذي تطبقه اليوم في المملكة المتحدة، حتى أننا إذا تعمقنا في البحث والدراسة سيتبدى لنا أن “الدستور” في العمليات التي تتبعها وكالة الاستخبارات المركزية يقوم على ما يعرف بالحرب المتعددة الأطراف “أرمغيدون” المصطلح الذي يقصد به الحرب التحالفية العالمية وحشد جيوش خاصة لخوض حربٍ بالوكالة وهذا ما دفعها إلى افتعال ثورة عسكرية فنزويلية ضد الرئيس نيكولاس مادورو تقوم على تقويض الاقتصاد الفنزويلي وإضعافه باستهداف قطاع النفط تحديداً، فضلاً عن تشويه صورة الرئيس مادورو وذلك في سلسلة من المحاولات الفاشلة كان آخرها المحاولة التي قامت بها وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي أيه) بزرع الفوضى بقيادة خوان غايدو الزعيم المعارض الفنزويلي الذي يعمل لصالح السي آي أيه وأمراء المخدرات الكولومبيين ويتقاضى منهم أجور أتعابه.
لا تختلف الفوضى المتصورة والتي تم رسمها للمملكة المتحدة كثيراً عن ما ساعدت وكالة المخابرات المركزية في التخطيط له في فرنسا عام 1968 عندما استهدف برنامج وكالة الاستخبارات المركزية مجموعات “اليسار الجديد” على وجه الخصوص، في الولايات المتحدة وخارجها حيث كان الهدف من تسلل وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية للانتفاضة الطلابية والعمالية اليسارية الفرنسية عام 1968 هو استهداف الرئيس الفرنسي شارل ديغول كردٍ انتقامي لسحب فرنسا من الهيكل العسكري لحلف شمال الأطلسي عام 1967 والدعوة إلى انسحاب الولايات المتحدة العسكري من فيتنام الجنوبية وجمهورية الدومينيكان وقطع المبيعات العسكرية الفرنسية لـ “إسرائيل” حيث كان يشتبه في قيام وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية بتدريب بعض المنظمات الطلابية المتطرفة على كيفية إدارة قتال الشوارع. وهذا ما أكده دانييل كون بينديت أحد كبار قادة ثورة باريس في ربيع عام 1968 والمقرب من حركة اليسار الجديد عندما أخبر الصحافي الفرنسي هيرفي بورغس في عام 1968 أن مثيري الشغب اليساريين والمتظاهرين حصلوا على “مبالغ كبيرة” من المال من قبل “الجمعيات الأمريكية والشركات التابعة والوسطاء بوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية” اليوم وبدلاً من الاعتماد على محرضين يساريين مثل دانييل “داني الأحمر” وكوهن بينديت في فرنسا في عام 1968 تعتمد وكالة الاستخبارات على اليمين المتطرف مثل ستيف بانون والبريطاني زعيم الحزب نايغل فراج ورئيس الوزراء جونسون و”السياسي السفنغالي” المعروف بغريغوري راسبوتين دومينيك كامينغز لإحداث الفوضى المطلقة في المملكة المتحدة وايرلندا.
لم يخف بانون وغيرهم من زعماء اليمين المتطرف سياستهم في استخدام تكتيكات اليسار الجديد التي كانت مستخدمة في ستينيات القرن الماضي لإحداث الظروف الفوضوية اللازمة لإدخال الحكم الفاشي في بلدان مثل المملكة المتحدة وفرنسا وإيطاليا و ألمانيا حيث تم تصميم فوضى وكالة المخابرات المركزية في فرنسا لاستبدال حكومة ديغول بحكومة يقودها إما الزعيم الاشتراكي بيير مينديز فرانس أو زميله فرانسوا ميتيران فهؤلاء “اليساريون” كانوا مضمونين في جيب وكالة الاستخبارات المركزية على عكس ديغول.
في عام 2016 نجحت وكالة المخابرات المركزية ووكلاؤها اليمينيون في التأثير في إدارة رئيسة الوزراء تيريزا ماي وحلفائها وإزاحتهم عن السلطة في لندن. إن هدف مهندسي الفوضى في مقر وكالة الاستخبارات المركزية في لانغلي بمقاطعة فيرجينيا على طول نهر بوتوماك التي يعمل موظفوها في سفارات الولايات المتحدة ومناطق أخرى حول العالم لتستخدمهم كعملاء لها والتي أسستها في المقام الأول لتكون مركز للأنشطة الخاصة (SAC) هو المملكة المتحدة وأيرلندا ما بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بهدف إخضاعها للاملاءات السياسية والاقتصادية للجماعة اليمينية المتطرفة في واشنطن. أما في البرازيل فقد استخدمت وكالة الاستخبارات المركزية (CIA) نموذجاً تقليدياً آخر للفوضى لإحياء الحكم الفاشي، ففي عام 2016 وهو نفس العام الذي تم فيه انتخاب ترامب رئيساً للولايات المتحدة وتم تمرير استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في المملكة المتحدة تم عزل رئيسة البرازيل اليسارية ديلما روسيف من منصبها عبر التخطيط لفضيحة اقتصادية وسياسية في حملة قامت بها وكالة المخابرات المركزية لتشويه سمعتها، لم يتم إقالة روسيف وإزاحتها من منصبها فحسب ولكن سلفها اليساري وخليفتها المحتمل لويز إيناسيو لولا دا سيلفا واجه تهم جنائية ملفقة ناشئة عن “عملية كار واش” (لافا غاتو) حيث تمكن القاضي والمدعي الفيدرالي البرازيلي سيرجيو مورو الذي كان أحد أصول وكالة المخابرات المركزية والذي حصل على تدريب متخصص في “الانقلاب الناعم” في جامعة هارفارد ووزارة الخارجية الأمريكية في عام 1998 من إدانة لولا بتهمة غسيل الأموال و الفساد الناتج عن التحقيق بتهمة الرشوة والتي تشمل شقة على البحر تلقاها كهدية لتسهيل أعمال شركة بناء والتي حكم عليه بالسجن على أثرها لمدة ثماني سنوات وعشرة أشهر وقضت على فرصه بالترشح للرئاسة في عام 2018 ومع تفاقم الركود الاقتصادي البرازيلي وجهود مهندسين الفوضى في وكالة المخابرات المركزية ذهبت الانتخابات الرئاسية إلى جايير بولسونارو المعجب باليمين المتطرف لبينيتو موسوليني وأدولف هتلر والمعجب المتحمس لدونالد ترامب، حيث اتضح أن هناك صلات مهمة بين بولسونارو وعائلته والعقل المدبر لترامب ستيف بانون المستشار السابق للبيت الأبيض وشركات تحليل البيانات المشاركة في انتخاب ترامب وتمرير خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
لم تكن المفاجأة كبيرة عندما تم تعين بولسونارو مورو وزيراً للعدل فالضوء الأخضر الذي أعطاه بولسونارو في الاحتراق الكبير لغابات الأمازون المطيرة يتلاءم بشكل كبير مع سياسة الفوضى الاقتصادية التي تنتهجها وكالة ترامب-بومبيو-هاسبل في وكالة الاستخبارات المركزية ليس فقط في البرازيل بل في بوليفيا المجاورة، حيث تعرضت بوليفيا وحكومة الرئيس اليساري إيفو موراليس لضغوط اقتصادية وسياسية ناتجة عن حرائق الغابات بحكم الحدود المشتركة.
على ما يبدو أن جذور الفوضى التي زرعتها عمليات وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية منذ تأسيسها في عام 1947وصلت أخيراً إلى المملكة المتحدة مع “المطرقة الصفراء” و”البجعة السوداء” والضحية اليوم تاريخ المملكة الطويل من الديمقراطية البرلمانية.