ترامب وخيارات الحرب على إيران
د. سليم بركات
تزداد التوترات بين أمريكا وإيران، وربما يلاحظ البعض أن سقف الردود قد أصبح عالياً، وربما فكر البعض الآخر أن ثمة نذر لمواجهة أمريكية إيرانية قد أصبحت تلوح في الأفق، وتتعدد الآراء حول آفاق هذا التصعيد، منها من يصفه على أنه توازن رعب وليس توازن ردع، ولاسيما بين إيران من جهة والقوى التي تدعمها الولايات المتحدة الأمريكية وتدفعها لتكون وقوداً لحروبها ومصالحها من حيث يعلمون أو من حيث لا يعلمون من جهة أخرى. ومنها من يقول:إن سياسة الرئيس ترامب هي سياسة ابتزازية تصب في مصلحة الكيان الإسرائيلي سواء أهدرت الأموال العربية من قبل حكام الخليج أم لم تهدر، ومنها من يقول:إن كل ما تفعله أمريكا ليس سوى إشارات لإحداث تحول جوهري في تفكير القيادة الإيرانية تمهيداً لتغيير سياستها بشكل تدريجي ليأتي ملبياً لرغبات ومصالح الولايات المتحدة الأمريكية على صعيد المنطقة… كل هذا يدفع إلى التساؤل أيوجد حرب بين أمريكا وإيران، أم أن الأمر لا يعدو كونه جعجعة؟.
عند التفكير بإمكانية قيام الحرب في المنطقة لابد من الوقوف على حقائق تستدعي قيام مثل هذه الحرب، وبمعنى أدق لابد من الحديث بلغة الأرقام، والذي بدوره يستدعي إجراء مقارنة على صعيد المنطقة بين العدوان الأمريكي على العراق عام 2003 وبين الحرب المحتملة على إيران اليوم، لاستنتاج المعطيات المؤدية لمثل هذه الحرب، فأثناء العدوان على العراق كانت الحشود الأمريكية البريطانية تفوق الـ200 ألف جندي، ناهيك عن الطائرات، والأساطيل الحربية، والأنواع الأخرى من السلاح الذي استخدم في ذلك العدوان، وإذا قارنا هذه الحشود في التواجد العسكري الأمريكي البريطاني الفرنسي الألماني الهولندي…في المنطقة اليوم والذي لا يتجاوز ستة آلاف جندي، في مواقع متفرقة على صعيد المنطقة، ومهماته محصورة بالمسائل الأمنية والتدريب، وغير ذلك من المسائل الوظيفية، لأدركنا أن هذا العدد لا يؤهل لإمكانية خوض حرب ولا حتى الاستعداد لها، حتى ولو أضفنا إلى هذه القوى المتواجدة القوى الجوية والبحرية التي يهدد بها ترامب وحلفاؤه، وهذا يعني استحالة فتح جبهة مع إيران، والدليل كثرة وعود ترامب الكاذبة بوضع خطة عسكرية تتضمن إرسال مئات الآلاف من الجنود الأمريكيين إلى المنطقة استعداداً لمناصرة حلفائه في مواجهة إيران، وإذا ما فكر بمثل هذه المناصرة فلن تكون إلا من خلال إجماع دولي يقره مجلس الأمن حتى لا تكون أمريكا في مواجهة العالم كما حدث في عام 2003، حيث التجاوز الأمريكي البريطاني الإسباني لمجلس الأمن في غزو العراق، الذي عارضته روسيا وألمانيا وفرنسا كدول دائمة العضوية في هذا المجلس. وبالعودة إلى التصعيد بين الطرفين الأمريكي والإيراني نجد غياب مجلس الأمن عن مناصرة الولايات المتحدة الأمريكية في الحرب على إيران، غياب يجعل من الولايات المتحدة الأمريكية منفردة فيما لو صعدت باتجاه الحرب هي وشركاؤها في المنطقة، وفي الطليعة الكيان الإسرائيلي، و النظام السعودي ومن لفّ لفهما، وهذا يعني غياب القناعة الدولية عن وجود تهديد إيراني حقيقي في المنطقة ولاسيما للملاحة الدولية في الخليج، وإنما يوجد عدم تساو في ردات الفعل بين الطرفين الأمريكي والإيراني.
من هذا المنطلق نستطيع القول:إن الخيار الأمريكي في الحرب على إيران ليس خيار الحرب الساخنة، وإنما هو خيار الحرب الاقتصادية التي يرغب ترامب من خلالها تجفيف منابع العملات الصعبة التي تحصل عليها إيران، وهذا يعني من منظوره تحجيم دور إيران، ومنعها من تثبيت أجندتها الإقليمية المناهضة لأمريكا وحلفائها في المنطقة، وهذا ما ترفضه إيران وهي تعلن استعدادها لأي مواجهة مع أمريكا أكانت هذه المواجهة سياسية أم اقتصادية أم عسكرية، الأمر الذي وضع إدارة ترامب في مواجهة الداخل الأمريكي مع الإبقاء على خيار العقوبات الاقتصادية كأداة فعالة لرضوخ إيران للتفاوض، ولما كانت إيران دولة عقائدية ولاسيما فيما يخص القضايا الداخلية، وكانت براغماتية عملية فيما يخص السياسة الخارجية، فهي لن تقدم على أية خطوة تهدد نظام الجمهورية الإسلامية الذي يتقدم على كل الأولويات أكان ذلك على مستوى الداخل الإيراني، أم كان ذلك على مستوى الخارج، تفعل ذلك وهي متيقنة بأن المواجهة تتطلب النفس الطويل وكسب الوقت في هذا المجال لتحقيق أهدافها، والتي هي أهداف حلفائها في محور المقاومة، تفعل ذلك وهي تستبعد الخيار العسكري إلا إذا فرض عليها، وهل نجانب الحقيقة إذا قلنا: إن الحقد الامبريالي الصهيوني الرجعي على إيران ليس وليد ساعته وإنما كان منذ اللحظة التي أسقط فيها الشاه بقيام الثورة الإسلامية.
إن إيران في هذا الموقف لا تسعى للحصول على صفقة مشابهة للصفقات التي يقوم بها الخانعون من الحكام العرب، مع العدو الصهيوني ممن يرغبون لإيران أن تحتجب عن مسألة الصراع العربي الصهيوني كما احتجبوا. إنها ترفض هذا الخنوع وتقف إلى جانب الحق العربي في فلسطين، وبالتالي ما تفعله أمريكا في دعمها للمشروع الصهيوني يعدّ مغامرة كبرى في إقدامها على الحرب مع إيران، مغامرة إما أن تنجح فيها وتبقى قطباً واحداً للعالم، أو أنها تفشل وتصبح دولة من الدرجة الثانية كما كانت في الحرب العالمية الثانية.
من الخطأ أن تظن مملكة آل سعود ومن لفّ لفها أن الرئيس الأمريكي ترامب سيهبّ لنجدتها فيما لو تورطت في هذه الحرب التي تستهدف كيانها وكافة إمكاناتها الاقتصادية وعلى رأسها منشآتها النفطية، ومن الخطأ أيضاً أن تظن أن ضرب القلب النفطي للملكة (أرامكو) سيحرك العالم ويقلب الدنيا، إن مثل هذا الأمر لن يحدث لا من قبل ترامب، ولا من قبل الإرادة الدولية أيضاً، وهذا يعني أن أحداً لن ينهض لنصرة مملكة آل سعود أو الدفاع عنها، كما يعني أن اللعب السعودي الممارس في مقدرات المنطقة ومستقبلها ليس أكثر من لعبة غباء سعودية مكشوفة وعاجزة، وهي بمضمونها ليست أكثر من عملية شعوذة، تظن من خلالها أنها قد وضعت العالم في مواجهة إيران وحمت نفسها، تفعل ذلك وهي تتفرغ لضرب الشعب اليمني، في الوقت الذي كان من الأجدى بها أن تتفرغ لحماية الشعب العربي الفلسطيني من الغطرسة والاعتداءات الإسرائيلية.
في واقع الأمر يمكن القول:إن مملكة آل سعود قد خسرت دعوتها للحرب ضد إيران منذ إعلان هذه الدعوة، والسؤال الذي يطرح نفسه ما مصلحة المملكة في مثل هذه الحرب التي تدعو إليها وما مصلحة العالم أيضاً فيها، وهي في مضمونها ليست أكثر من أن تكون حرباً استثمارية امبريالية صهيونية لاستنزاف خيرات المنطقة وعلى رأسها أموال المملكة التي يتصرف بمقدراتها ملوك النفط ومن لف لفهم؟ ومن ثم لماذا يشارك الآخرون في مثل هذه الحرب العدوانية على المنطقة، دون الأخذ بحقائق الوضع بعد أن شرع ترامب ما يستطيع من قوانين أمريكية بمعزل عن الشرعية الدولية لحرمان إيران من تصدير نفطها، وبالتالي لخنقها اقتصادياً وإسقاطها؟. فعل ذلك وهو يدرك أن إيران قد تستجيب إلى ضغوطه، وأن لا سبيل أمامها سوى خيار واحد هو خيار الاستسلام للإرادة الأمريكية بعد انسحابه من الاتفاق النووي الإيراني، فعل ذلك بدون أن يدرك أن إيران لن ترفض الشروط الأمريكية، لكنها رفضت واتجهت نحو خيار واحد هو خيار المقاومة، وهذا الخيار ليس جديداً على إيران، ولاسيما بعد مقاومتها لسنوات من الحصار الاقتصادي والسياسي الذي فرض عليها ظلماً وعدواناً من قبل أمريكا وحلفائها في المنطقة.
إن مواقف العالم من الدعوة إلى الحرب على إيران واضحة، ولاسيما بالنسبة لسورية وباقي محور المقاومة، ولكل من يضع حاجزاً عازلاً ضد انزلاق العالم إلى حرب قد يمتد لهيبها ليس إلى المنطقة وحدها وإنما لتشمل جميع أنحاء العالم، الأمر الذي يوجد الكثير من الحسابات المعقدة قبل أن يتحول العالم إلى أشلاء بسبب هذه الحرب، حسابات معقدة تنتظر لحظات التسوية أكثر مما تنتظر التصفية عن طريق القوة الغاشمة، ولاسيما في الوقت الذي لا يفوت فيه الرئيس الأمريكي ترامب فرصة لتحقيق الأرباح على حساب دول النفط الخليجية، ولذلك اختار التصعيد في مواجهة إيران وهو يؤكد استعداده للدفاع عن مملكة آل سعود كذباً ونفاقاً بقوله: ادفعوا لأحميكم، ولماذا لا يتظاهر في مثل هذه الحماية وهو يجد المملكة ومن لف لفها في كامل الاستعداد للدفع الذي بلغ مليارات الدولارات منذ عام 2017 وحتى يومنا هذا.
لقد حول ترامب دول الخليج العربي وعلى رأسها مملكة آل سعود إلى مجرد فرص للاستغلال والربح، فعل ذلك دون أن يكون له أي علاقة باختيار الإرادة العالمية، ولا بتلك الأوهام التي تسيطر على قادة الدول النفطية، ممن يعتقدون بأن أمريكا والعالم مهتمة بأمرهم، لكن الحقيقة تقول:إن العالم ليس في عجلة من أمره كي يتخذ إجراءات باتجاه الحرب، ولا حتى على تبني الحلول للأزمة الخليجية، إن ما يشغل العالم اليوم ليس الحروب، وإنما محاصرة خطر الحروب، ولذلك يرفض تشديد الحصار على إيران، كما يرفض الحرب ضدها، وباختصار نقول:إن أمن الخليج وعلى رأسه أمن المملكة يبدأ أولاً بإنهاء الحرب على اليمن و بإنهاء دعم الإرهاب الذي يستهدف سورية وباقي دول المنطقة، ومن ثم يكون العمل على تحقيق أمن الخليج العربي والذي يبدأ بإنهاء العقوبات الاقتصادية الأمريكية على إيران وعلى جميع دول العالم ومنها سورية، وروسيا، والصين، والحبل على الجرار. ولما كان أمن الخليج هو مسؤولية دول الخليج وفي الطليعة إيران وليس مسؤولية الكيان الإسرائيلي والولايات المتحدة الأمريكية فلابد من مشاركة إيران في أي عمل يهدف إلى استقرار منطقة الخليج بما في ذلك حرية الملاحة في مضيق هرمز.
بقي أن نقول ووفق المعطيات الاستراتيجية المحلية والدولية: إن أمريكا لم تقدم على أي تجربة عسكرية في الخليج العربي بعد أن تلطخت سمعتها في الحرب على أفغانستان والعراق، الأمر الذي يؤكد أن خيارها في الحرب هو الاعتماد على سلاحها الاقتصادي وهو الخيار الوحيد أمام الرئيس الأمريكي المتخبط ترامب، سلاح سينعكس سلباً على الاقتصاد الأمريكي، وبالتالي إلى محاسبة ترامب وعزله عن سدة الرئاسة، وفي أحسن الأحوال بالنسبة له إسقاطه في الانتخابات الأمريكية القادمة.