التعليم- الوعي- التنمية.. منظومة مجتمعية متكاملة
أمجد حامد السعود
لا شك أن كلمتي تنمية ووعي مقترنتان بمنظومات عمل فكرية سياسية اجتماعية اقتصادية ثقافية، فالمنتج التنموي التوعوي لا يأتي ضمن فراغ العدمية ولا يخرج عن مسار المنهج في العمل، ومن دون أدنى شك فإن الفاعل المؤثر هنا يدور ويعمل في محيط هذا المناخ الذي توفره له، ففي حالة العشوائية الكمومية الاجتماعية لا يمكن لمناخ التنمية إلا أن يكون منتظماً من حيث الشكلانية غير المرئية، ولكن المتمعّن في أصول وأدبيات التنمية بمجالاتها المختلفة لا يمكن إلا أن يكون قادراً على التماس مواطن الخلل في ذلك المناخ العشوائي الكمومي وليس العيب فيه، فالفيزياء الاجتماعية بتنظيمها تختلف عن الفيزياء الطبيعية بعشوائيتها الخلاّقة بالمعنى الأكاديمي التخصّصي لها.
لا يمكن لأي عملية تنمية ووعي إلا أن تكون عملية إيجابية غير قابلة للسلبية الاحتمالية في النمو، ولكي تكون تلك العملية معالجة بطريقة صحيحة لا بدّ من أن تتسلسل تدريجياً على أسس ومرتكزات وخطط وأهداف احتمالية يقوم عليها من يمتلك مقومات ذلك العمل من الناحية المعرفية والعملية، ويظهر هذا جليّاً في الدول المتقدمة التي ترتكز في سياساتها التنموية على مخرجات مراكز الدراسات والأبحاث العلمية والمؤسسات التعليمية الأكاديمية، وهذا ما تفتقده معظم دول المنطقة لجهة ربط التنمية والوعي بتلك المؤسسات القائمة على المنهج العلمي السليم المقترن بسبب ونتيجة، بعيداً عن التقليد واستنساخ التجارب التنموية على الصعد المجتمعية كافة.
إن حالة الجمود والاستقرار الشكلاني التي تعيشها المجتمعات خلال فترات زمنية معيّنة من الممكن أن تكون حالة إيجابية شكلانية، لكنها تحمل في ثناياها ما خفي لجهة وضع القطيع المجتمعي في حالة من الرومانسية المفرطة لمنجزات وقامات الماضي، لذلك لا يمكن أن نأخذ المؤسسات التعليمية متمثلة بالأكاديميين والطلاب والزاد العلمي المعرفي المقدّم فيها كحالة منفصلة عما قبلها أو عما سيكون بعدها لجهة دورها المجتمعي التنموي الوطني الذي يجب أن تمارسه، وإنما هي جزء من عملية قائمة بذاتها، وبما أنها صورة مجتمعية مصغرة عن المجتمع الكبير فلا شك أن الركيزة الأساس فيهما واحدة، وهي الفرد الذي لا يمكن إلا أن يكون مجتمعياً بالفطرة لجهة مكتسباته المعرفية والعلمية والثقافية والاجتماعية التي يتلقاها منذ بداية حياته وحتى مماته، على اعتبار أنها عملية مستمرة لا يمكن أن تقف عند نقطة معينة، لذلك فإن عملية التعلّم كمنظومة مؤسساتية متكاملة تبدأ من الأسرة إلى دور رياض الأطفال وحتى التعليم الجامعي بكافة مستوياته، لأنها مرتكز لأي نهضة أو تنمية على الصعد كافة، وهذا يحيلنا إلى التجربة المهاتيرية الماليزية التي أخذت من هذا الأساس المرتكز الأول لنهضة وتنمية شاملة حصدت ثمارها بعد سنوات من العمل التنموي الجاد، وحوّلتها من دولة فقيرة وغير متقدمة إلى دولة تكاد توازي اليابان على المستويات العلمية والاقتصادية والاجتماعية.
وإذا ما أردنا أن نقيّم أو نقيس مدى نجاعة المؤسسات التعليمية الأكاديمية في سورية على مستوى الكفاءات العلمية الأكاديمية في عملية التنمية والوعي، وتعزيز الانتماء الوطني وفقاً للآليات القانونية المتّبعة فيها، نجد أن هناك نسياناً شبه تام لمسألة الدور المجتمعي الذي من الممكن أن تلعبه تلك الفئة المهمّة ومدى امتلاكها لمقومات هذا العمل على المستوى الكاريزماتي والثقافي والتوعوي وحتى الصراعي ما بين جيل وآخر، والتركيز فقط على الجانب العلمي التقديري كمخرج تحصيلي لسنوات دراسية عديدة قد يكون خاضعاً للعديد من العوامل التي تلعب دوراً فيه. وهذا من شأنه أن يُبعد الأساتذة والأكاديميين في تلك المؤسسات عن ممارسة دورهم كقادة مجتمعيين مؤثرين وفاعلين على المستوى ليس العلمي فقط وإنما المجتمعي التنموي بمجالاته المختلفة والاكتفاء بالجانب المعرفي التخصّصي، فسوء التخطيط وعدم التدرج بصناعة هذه الفئة المهمّة ضمن منظومة تعليمية- مجتمعية مترابطة ومتكاملة على مبادئ المواطنة والتفكير العلمي الخلاّق والمبدع من شأنه أن يختصر كثيراً من المهام التي من الممكن أن تكون على أجندة تلك المؤسسات في المجتمع.
أما فيما يخصّ الطلبة الجامعيين ضمن هذه المؤسسات التعليمية التي باتت تتجه لسياسات كمية في احتضانها للشباب، وهذا له ما له وعليه ما عليه من السلبيات والإيجابيات، فمن المفترض أن تكون ميداناً عملياً وعلمياً لحصيلة ما تلقاه هؤلاء الطلبة في مراحل التعلّم والتنشئة المجتمعية السابقة، وهذا كان ملاحظاً إذا ما عدنا بالزمن إلى الوراء حينما كانت مؤسساتنا التعليمية الجامعية ومنظماتنا الطلابية هي مركز الاستقطاب الأول لعنصر الشباب الواعي المثقف، فالمخرجات الشبابية النخبوية لتلك المؤسسات في المرحلة الراهنة شحيحة بنسبة وتناسب مع السياسات الكمية للاستيعاب الجامعي بالتخصّصات المختلفة، والإشكال ليس في تلك المؤسسات أو المنظمات أو الاتحادات، وليس في القائمين عليها ولا في بناها التحتية، وإنما تكمن المشكلة في تعدّد مراكز استقطاب الشباب في ظلّ الثورة المعرفية والتكنولوجية هائلة السرعة والتي أصبحت تمثّل منافساً ما بعد حداثوي شرس قادر على ابتلاع عقول الشباب وطاقاتهم في ظلّ فضاء مفتوح لا حدود فيه، بعيداً عن القوالب الجاهزة والتجارب المكرّرة والروتين العلمي الأكاديمي وبمناهج رثّة من حيث الشكل وآلية صياغة المعلومة، الثقافية كانت أم التخصصية، وكيفية نقلها للطلاب فما يمكن أن يُعطى بمجلد أصبح الشاب بمقدوره أن يحصل عليه بثوانٍ معدودة على شبكة الانترنت بإنفوغراف واحد!.
وعليه فإن العملية التعليمية وارتباطها بعملية التنمية لا يمكن أن تخرج عن مسار مؤسساتي مجتمعي مترابط ومتكامل بعيد عن التأطير والحصر بالمؤسسات الأكاديمية والتربوية فقط، فكل ما هو مكتسب على المستوى المجتمعي يُدمج بشخص الفرد ويتحوّل إلى سلوك ممارس يظهر بشكل فعلي في تلك المؤسسات، وهذا القطع ما بين الوجوب المجتمعي وبين ما هو كائن على أرض الواقع قد يكون سبباً رئيسياً في تحييد تلك المؤسسات عن ممارسة دورها في احتضان الشباب واستثارة طاقاتهم وهممهم من أجل نموذج تنموي مجتمعي سوري شامل. وبكل الأحول ليس قصدنا التعميم أو جلد النفس وإنما التوصيف لواقع مختلف عما كان عليه فيما سبق أو ما يجب أن يكون عليه في المرحلة الراهنة.