طه الخالدي.. مرارة النسيان وطي دفاتر الحب!!
“البعث الأسبوعية” ــ رامز حاج حسين
ظل أبي
كالملهوف التواق للاحتماء بظل شجرة كبيرة من رمضاء الجهل، رحت أبحث وأبحث وأقلب المواقع الإلكترونية، وأسأل بعض الأحبة في الوسط الفني عن أثر، وعن نواة صغيرة لمعلومة صغيرة أستطيع البدء منها في كتابة سيرة صغيرة للراحل الكبير طه الخالدي.
.. صفر اليدين كانت تعود علي كل تلك المواقع والأجوبة اليائسة.
كان عصرُ الجباه لتذكر أي شيء عن الراحل يثير دهشتي.
نحن في هذا الزمن، وفي هذه الثورة التقنية المهولة، ألم يجد ناقد ما، أو فنان ما، أو أي أحد، الوقت القليل ليكتب مدونة أو سطراً تعريفياً بسيرة حياة فنان تشكيلي أثرى ذائقة الأطفال بآلاف اللوحات والرسوم التوضيحية لقصص الأطفال في مجلات الأطفال المحلية والعربية.
طه الخالدي كان رقماً صعباً وفناناً ثرياً وغنياً أثرى ذائقتنا وذائقة الجيل الذي قبلنا برسوم أقل ما يقال عنها أنها أكاديمية متطورة من فن التبسيط للأطفال، ومتاحة للجميع ملء العين واليد والفؤاد.
ألّا أجد في محركات البحث والمواقع الإلكترونية كلمة واحدة، أو لوحة تم شرح تفاصيلها، عن طه الخالدي فهذا لعمري أمر خطير وجلل!!
إلى أين تسير بنا قافلة التأريخ الفنية وأرشيف مبدعي ثقافة الطفل؟ ولماذا يغيب رائد من رواد مجلة “أسامة” الحبيبة عن ساحة النقد والتشريح الفني والدراسة؟
هناك معلومات مقتضبة وصغيرة عن إعادة فريق مجلة “أسامة”، بين فترة وأخرى، طباعة عمل من الأرشيف للراحلة الكبيرة دلال حاتم، ويكون بالخبر اسم طه الخالدي مقترناً برسوم تلك القصة.
خواء مدقع بالوجع
لن يكون لهذا المقال طعم ذكريات ولا حميمية أثر، فلا تواصل مباشراً معه، ولا تواصل عن طريق الغير.
طه الخالدي ربطتني، والعديد من محبي فن الكوميك والرسوم التوضيحية، معه علاقة المعطي النبيل الذي يهب الهدية على شكل صُرة من قماش مليئة بما لذ وطاب، يضعها أمام باب البيت أو تحت وسادة أحلامنا، ولا نرى منه إلا ظلاً يتوارى في ضوء الأحلام النبيلة.
مدرسة وأكاديمية خطوط طه الخالدي حري بها أن تصبح مجلداً نقدياً في تبسيط الخطوط، وفي طريقة رسم العناصر البشرية والحيوانية والجمادات بتلك المسحة السحرية من البساطة وسهولة الوصول لذهنية الطفولة البكر بلا عناء.
بساطة قلّ نظيرها
شخوص مسطحة تشبه صينية جدتي المليئة بحلوى العيد مع رائحة حناء مجبول بتراب هذه الأرض، أقل ما يقال عن خطوط وألوان طه الخالدي أنها كانت هيروغليفية أصيلة تشبه لوحات جدران معابد صلوات أرواحنا، سهلة الفهم، وسهلة الإيضاح، تفضي بنا إلى دروب مزهرة لا تحتاج إلى عناء الجري وراء مفرداتها، سهلة رشيقة وراقصة بدلال في ذاكرتنا الفنية.
أأنعي رسومك وخطوطك وسيرة ألقك أيها البهي؟! أم أنعي ذاتنا لأرواحنا المتطلعة لفن طفلي سوري يليق بالسادة السوريين الصغار؟!
قصة غياب اسم الفنان الخالدي، عن منابرنا وعن مدوناتنا وعن كراسات دراساتنا، حري بها أن تجعلنا ندق كل نواقيس الخطر، وللمرة الألف، بأن ثقافة الطفل بحاجة إلى إعادة هيكلة ونظم ضبط تمتد جسورها من الرعيل المؤسس إلى المواهب القادمة الواعدة، مروراً بمبدعي هذا الجيل، ومغموريه المنسيين على قارعة الفرص الضائعة.
الاجتهادات الشخصية الرائدة، والتي تنم عن عشق خاص للفنانين لما يشتغلون عليه، لن تبني خطة وطنية جامعة ما لم يتنبه الكل، وبكل مفاصل العمل الطفولي، لهذا الخطر، ولهذه الضرورات الملحة.
الشمس ذابت في ألوان لوحاته
في كتابه الشائق “فنانون”، كتب قسطنطين باستوفسكي ما يشبه القصيدة الملحمية وهو ينعي الفنان بول غوغان.. شيئ جليل يشبه شعوري تجاه فن الخالدي الرفيع: “توفي غوغان، وغطت فتاة تاهيتية – هي زوجته – عينيه بشعرها. كان الموسم موسم رياح، والغيوم البيض تنطلق فوق الجزر، وبدا وكأن غوغان غطّ في غفوة لا غير، وبكى المتوحشون!! لقد مات رجل أبيض رائع، حمى بحنق شديد حياتهم، وجزيرتهم المذهبة!! هكذا قضى غوغان، الرجل ذو العينين العابستين، وصدر البحار، ذو اليدين المتضوعتين بالراتينج والأصباغ، ونفس طفل عذبته الأفكار الخالدة عن البعث وطفولة الإنسانية”.
أتراه أفلت من وحي اسمه لمحة في هذه الزاوية بالذات؟ طه الخالدي رحل، وقد عذبته الأفكار الخالدة عن طفولة الإنسانية؟
لن نجد الجواب إلا عند طفل قادم من بعيد سيعيد أرشفة أعمال الراحل، وطبعها من جديد، وتوزيعها كمنشورات صباحية للحالمين بطقوس وأبراج وفناجين قهوة..
فن الطفولة السورية يستحق منا بذل الكثير!!