مجلة البعث الأسبوعية

عالم مدفوع بالتكنولوجيا.. الحياة عام 2025: خصوصية مفقودة وثروة متركزة وفضاء سياسي مختطف وإعلام مسيس ومجتمعات أكثر ظلماً وانقساماً

“البعث الأسبوعية” ــ علي اليوسف

قلبت جائحة كورونا جميع العادات والتقاليد التي كانت سائدة في السابق، حتى بات عدد كبير من الخبراء يعتقدون أن التغيير المجتمعي سيجعل الحياة أسوأ بالنسبة لمعظم الناس كونهم سيعيشون في عالم ما يسمى “كل شيء عن بعد”.

ولهذا الغرض، وجد استطلاع لخبراء التكنولوجيا والاتصالات والتغيير الاجتماعي في مركز بيو للأبحاث أن الكثيرين يتوقعون ظهور تأثيرات قد تقلب مفاهيم الحياة الاجتماعية والاقتصادية التي كانت سائدة. وعندما طلب منهم التفكير بشكل الحياة، في عام 2025، في أعقاب تفشي الوباء العالمي والأزمات الأخرى في عام 2020، كانت وجهة نظر المبتكرين والمطورين وقادة الأعمال والباحثين والناشطين أن العلاقة بالتكنولوجيا ستتعمق مع تزايد اعتماد شرائح أكبر من السكان على الاتصالات الرقمية في العمل والتعليم والرعاية الصحية والمعاملات التجارية اليومية والتفاعلات الاجتماعية، وكان العنوان الرئيسي هو أنه عالم “كل شيء عن بعد”.

 

الفارق المعرفي

الملفت في الاستطلاع أنه تم توقع تغيير كبير في الحياة العامة من شأنه تفاقم عدم المساواة الاقتصادية، حيث يتقدم أولئك المرتبطون بدرجة عالية من الذكاء التكنولوجي أكثر من أولئك الذين لديهم وصول أقل إلى الأدوات الرقمية، أو تدريب أقل عليها، أو استعداد لاستغلالها. كما من شأنه تعزيز قوة شركات التكنولوجيا الكبيرة، لأنها ستستغل مزاياها السوقية وآلياتها، مثل الذكاء الاصطناعي، بطرق يبدو من المحتمل أن تزيد من تآكل خصوصية واستقلالية مستخدميها، ويضاف إلى ذلك مضاعفة انتشار المعلومات الخاطئة.

وفي هذا الاستطلاع، قال العديد من المشاركين إن قلقهم العميق يتعلق بالتلاعب الذي يبدو أنه لا يمكن إيقافه في الإدراك العام والمشاعر والعمل من خلال المعلومات المضللة عبر الإنترنت، خاصةً عندما يتم استخدام الأكاذيب وخطاب الكراهية عمداً من أجل نشر المخاوف، وقالوا إنهم قلقون بشأن الضرر الكبير الذي يلحق بالاستقرار الاجتماعي والتماسك وتقليل احتمالية التداول العقلاني وصنع السياسات القائمة على الأدلة.

في الوقت نفسه، أعرب جزء من هؤلاء الخبراء عن أملهم في أن التغييرات التي أحدثها الوباء ستجعل الأمور أفضل بالنسبة لأجزاء كبيرة من السكان بسبب إطلاق إصلاحات جديدة تهدف إلى العدالة العرقية والمساواة الاجتماعية، وتحسين نوعية الحياة للعديد من العائلات والعاملين، حيث تصبح ترتيبات مكان العمل الأكثر مرونة دائمة وتتكيف المجتمعات معها، وأخيراً إنتاج تحسينات تكنولوجية في الواقع الافتراضي والواقع المعزز والذكاء الاصطناعي التي تسمح للناس بأن يعيشوا حياة أكثر ذكاءً وأماناً وإنتاجية؛ ناهيك عن أن الطرق التي يستخدمها الناس ويفكرون بها سوف تتقدم أكثر في استمرارية الواقع إلى الافتراضي، وسيصبح السكان أكثر اعتماداً على الشاشات التي ستحمي من الفيروسات القاتلة، ولكن دون أن ننسى أنها ستعزل الناس؛ وبالتالي، فإن الوضع الطبيعي الجديد، فيما يتعلق بدور التقنيات الرقمية في حياة الأفراد الشخصية والمهنية، هو الدخول في “اللقاء بالإكراه” [Met Averse]، وتعلم كيفية التنقل فيه، لكن أكثر ما يقلق هو دور شركات التكنولوجيا في حياة الأفراد في عام 2025.

 

الذكاء الصناعي والطابع الإنساني

ويرى من خضعوا للاستطلاع أن الناس بحاجة إلى الوضوح، وتبني الشفافية. وبهذا الخصوص، شددت رنا القليوبي، الرئيس التنفيذي لشركة Affectiva، على إضفاء الطابع الإنساني على الذكاء الاصطناعي عبر تخفيف تعقيدات التفاعل مع الأجهزة الالكترونية، خاصةً أنه سيكون لدى الجميع علاقة نشطة وتفاعلية مع الأدوات الالكترونية، ولهذا السبب نحتاج إلى طبقة تعريفية من الوعي تراقب كيف نتغير ونتكيف؛ فالكثير من هذا التطور جيد ومفيد، لكننا بالتأكيد سنعيش حياتنا مع أجهزتنا مغمضين، بمعنى أننا لا ننظر إلى ما نستخدمه وكيف نستخدمه، بل نحن نمارس المشاركة التقنية غير الواعية.. أدواتنا مريحة للغاية وسهلة الاستخدام وسريعة الاستجابة لدرجة أنها تغرينا بالطريقة اللامعة التي تعيد فيها تنظيم تفكيرنا وسلوكنا وحياتنا.

ويرى باري شوداكوف، مؤسس ومدير “Sertain Research”، أن القدرة على التلاعب بالواقع والحقائق والسلوكيات والحياة كانت تتركز، خلال الفترات السابقة من التاريخ البشري، في كيانات مرئية، حيث كانت المؤسسات كيانات ملموسة، أما التقنيات الحديثة فهي تقدم القدرة على تجنب الوجود؛ وحتى السلوكيات ستفقد التعاطف والتركيز، وستتجه مع الحوسبة إلى الكم، وستتوسط الخوارزميات والذكاء الاصطناعي في المزيد من تفاعلاتنا، وكلما زاد اعتمادنا على الجهاز أصبح من الضروري على جميع المستخدمين فهم منطق الأداة وأنموذج العمل للأداة التي يلتقطونها ويستخدمونها، لذلك ستكون المراقبة، واستغلال البيانات، والتتبع، والملاحظة، وتحليل نماذج للعمل. وفي كتابه “كلهم يكذبون” يقول سيت ستيفنس دافيدوفتش، “تعد عمليات البحث على غوغل أهم مجموعة بيانات جمعت على الإطلاق عن النفس البشرية”، وبعبارة أخرى، تعتبر النفس البشرية أنموذجاً تجارياً ناشئاً.

أما الرئيس السابق لمؤسسة “الحدود الإلكترونية”، براد تمبلتون، فيقول: “هذه هي المعركة الأولى في حربنا الأخيرة على المرض. نتعلم الكثير عن مؤتمرات الفيديو والاجتماعات، وعقد الأحداث الكبيرة عبر الإنترنت، وإقامة الحفلات عبر الإنترنت.. كانت مكالمة الفيديو شيئاً مستحيلاً في الخمسينيات، لكن الوباء تسبب في حدوث ذلك أخيراً، وقد نطور أيضاً وسائل للقيام برحلات عمل مهمة جداً دون السفر”.

وترى دانا بويد، مؤسس ورئيس معهد أبحاث البيانات، والباحثة الرئيسية في مايكروسوفت، أن عدم المساواة سيخلق انقساماً كبيراً بين أولئك الذين يزدهرون وأولئك الذين يعانون من ضائقة شديدة، وسيكون هناك الكثير من الأشخاص ذوي المكانة العالية الذين سيخرجون من الوباء بالثروة والصحة وبأهداف حياتية سليمة، وسيكون هناك من أصيبوا بالمرض ولم يتعافوا تماماً، وسيكون هناك من فقدوا وظائفهم وتحول ضعفهم إلى الفقر بسرعة، ولكن ستكون هناك أيضاً أمهات اتجهت حياتهن المهنية إلى اليسار بعد عدة سنوات من محاولة البقاء في المنزل.. تعكس التقنيات الرقمية ما هو جيد وسيئ وقبيح، وسيستمر الناس في استخدام التكنولوجيا للحصول على الدعم والمساعدة ، لكنهم سيكافحون الكيفية التي ستصبح فيها التكنولوجيا فيها مجالاً للعداء والارتباك المعلوماتي، وسوف تعتاد مجموعة من الشباب على إشراك الأصدقاء من خلال التكنولوجيا.

 

الخرق المعلوماتي

يرى دوغلاس روشكوف، المنظر الإعلامي، أن عام 2025 قد يكون محلياً في الروح ومحلياً في الممارسة. ومع تعثر سلاسل التوريد العالمية وكشف عوزها البنيوي، سيعتمد الناس أكثر على السلع المنتجة محلياً، وسوف يعني هذا عدداً أقل من الوظائف التي لا معنى لها ولا قيمة لها. تُستثمر الآن تريليونات الدولارات في الشركات التي تعتمد على الإدمان والعزلة والخوف لمواصلة النمو. هذا أمر خطير للغاية، لأن هذه الشركات ستنفق أموالها في الحرب على التسبب عمداً في الذعر والخوف.. إنهم يعرفون أنه كلما زاد شعورنا بالضيق وردود الفعل، زاد احتمال تفاعلنا مع منصاتهم. وحتى الآن، نرى أشخاصاً على منصات التواصل الاجتماعي يهاجمون أولئك الذين ينبغي أن يتحالفوا معهم، ويقومون بإلغاء الأشخاص بدلاً من التعاون معهم، وإذا قررت أنظمة الذكاء الاصطناعي أن قلب الناس على بعضهم البعض هو أسهل طريقة بالنسبة لها لتقديم المقاييس المطلوبة، فقد نكون في ورطة كبيرة.

وكما توقع جامي كاسيو، وهو زميل باحث في معهد المستقبل، فإن هناك ثلاث ساحات واسعة من عدم اليقين التكنولوجي من المحتمل أن نشهدها بحلول عام 2025، وتنبثق عن الديناميكيات الاجتماعية الجارية الآن، وهي: انتشار وتوافر العمل عن بُعد والتقنيات المستخدمة، وإظهار السلطة لا سيما في ميزان مراقبة المواطنين، ودرجة الثقة والمساءلة في أنظمة وسائل التواصل الاجتماعي من حيث الخصوصية الشخصية والحماية من التلاعب.

في المقابل، يشير جيم سورر، مدير التقنيات المفتوحة المعرفية والنظام البيئي لمطوري الذكاء الاصطناعي في شركة IBM، إلى أن الوضع الطبيعي الجديد، بحلول عام 2025، سيكون أفضل على الأرجح للأسباب التالية:

– سيتم تحسين التعامل مع الأوبئة وتحسين سرعة تطوير اللقاح وتحسين الاستعداد للوباء القادم.

– سيتم تحسين الخدمات التعليمية والصحية والحكومية عبر الإنترنت، وسيكون لدى المزيد من الأشخاص خبرة في التعامل معها.

– ستستمر الشركات في تشجيع المزيد من الاجتماعات عبر الإنترنت والمزيد من العمل من المنزل.

– سيكون هناك المزيد من روبوتات البيع بالتجزئة، وروبوتات التواجد عن بعد، والروبوتات في المنزل، وكل ذلك مع المزيد من الاستثمار وعمليات النشر وقصص النجاح.

– سيكون هناك عودة في النهج المجتمعي للوظائف المحلية في خدمة ثقافة المجتمع والتنمية.

 

الخاتمة

لقد أظهرت أزمة COVID-19 أن كل شيء ممكن عن بعد، لكن ما لم يكن في الحسبان هو أن التكنولوجيا الجديدة ستكون شديدة التطفل، وبدلاً من الحفاظ على الخصوصية والأمن وحماية الحقوق الفردية فإن الوضع “الطبيعي” الجديد لما بعد الأزمة أن يتم تعديل هذه المفاهيم للسماح للتكنولوجيات بالتدخل في حياة الناس – كما يحدث عسكرياً في بعض الدول في الوقت الحالي – وسوف يؤدي هذا التحول في هذا الأنموذج من التدخل، بالتالي، لطمس الحدود بين حياة الأشخاص الشخصية والمهنية والعامة. وعلى سبيل المثال، ستصبح حالات الطرد الإلكتروني – التي يفقد فيها الشخص وظيفة بسبب التعليقات أو المعلومات المنشورة عبر الإنترنت – أكثر شيوعاً، ما سيكون له تأثير على جودة المناقشات والمعلومات التي يطرحها الأفراد.

في الحقيقة، ستكون القوة الفعلية في السنوات القادمة هي لوسائل التواصل الاجتماعي، وسيقع الكثيرون فريسة للبرمجيات الخارجية، خاصةً في ظل عدم وجود أي خطاب، وغياب أي إقناع، وعدم وجود طرائق معروفة يمكنها اختراق مجموعة المبرمجين المغلقة، وستكون القوة المتلاعبة بوسائل التواصل الاجتماعي التفاعلية في أيدي “معتمدين” بغض النظر عن سياساتهم.

قبل الجائحة، كان الكثيرين يتوقعون أن القوة النشطة والتفاعلية لوسائل الإعلام التي يتم توجيهها وتنقلها بواسطة المستخدم ستؤدي إلى جمهور أكثر وعياً، لكن ما لم يكن في الحسبان هو أن القوة الخفية التي تحركها افتراضات خوارزمية، سواء أكانت دقيقة أم لا، هي أشبه بـ “صندوق باندورا”. وعليه، فإن النسيج الثقافي للحياة سيكون مشوهاً، وخاصةً عندما نجبر على العيش في المنازل بدلاً من استخدامها كأماكن للنوم. ولذلك عندما يفكر المرء في علاقة الناس بالتكنولوجيا، لا شك أنه سيجد أن كل شيء سيتبدل من النص إلى الصوت، وبالتالي تعزيز احتمالات المراقبة والسيطرة المطلقة على حياة الناس.

أخيراً، منذ أكثر من 20 عاماً، كان لدى الجميع نظرة متفائلة جداً بتطور التكنولوجيا، لكن ما سيحصل يضع إشارات استفهام كثيرة حول الخصوصية التي سيفقدها جميع سكان الأرض، والأهم أن هؤلاء السكان سيدركون لاحقاً أن الثروة في العالم ستتركز بيد حفنة من البشر أكثر من أي وقت مضى، وسيحتل العلم المرتبة الثانية، وسيتم اختطاف الفضاء السياسي عبر التدخلات الإعلامية المسيسة للجهات المسيطرة على العالم الالكتروني، الأمر الذي يخلق مجتمعاً أكثر تفاوتاً وظلماً وانقساماً حاداً حول العديد من الأشياء التي تحتاج إلى إجماع اجتماعي، أي أنه، في عام 2025، سيكون الوضع الطبيعي الجديد أن تكون المجتمعات منقسمة بشكل أكثر حدة.