جمعية العاديات تتجول في حلب القديمة
البعث الأسبوعية-غالية خوجة
تستقر قلعة حلب في جذور الدم والحنين والشوق المبين، وتظل جاذبيتها الخاصة تشدك إلى أن تصير جزءاً من أزمنتها، فتهبّ، وبلا شعور، لتقطع المسافات إليها وتلقاها مثل ضوء عاشق يريد أن يتعطّر بزمن معتّق وذاكرة متفتّحة، لا سيما بعد بسالة جنودنا الأبطال وصمودهم وانتصارهم.
مدينة حلب القديمة المعتبرة درّة التراث العالمي لأنها فريدة بكل شيء، تمنحك الطمأنينة والثقة والتفاؤل وأنت ترى منهجية “الأمل” تستمر “بالعمل”، وتستعيد الحجارة المدمّرة الحياة من جديد.
تجذبني القلعة مثل طبيب ينوّمني مغناطيسياً، فأتجول مع كاميرتي وذكرياتي مع أبي – رحمه الله- كأول دليل سياحي لي في مدينة حلب القديمة المحفورة في دمي، وأتجول مع ذكرياتي مع أمي- رحمها الله- وهي تشتري لنا ثياب العيد من أسواق المدينة القديمة الصاخبة بفرح الناس من كافة فئات الشعب.
هذه الأسواق المسقوفة بفنيات جمالية وطبيعية وفنية هي أيضاً سعيدة بأجواء الناس كباراً وشباباً وصبايا وأطفالاً وباعة ومحلات مختلفة ومتنوعة منها المأكل والملبس والأدوات المنزلية، بينما الأرصفة العتيقة والنوافذ والشبابيك والأبواب الخشبية تستعيد حكاياتها مع أوراق أشجارها عندما كانت في غابة ما، ثم جاءت جذوعها إلى هنا لتدخل بوابات التأريخ الخالدة.
وبينما تتداخل نصوص اللحظة الحياتية المعاصرة مع نصوص اللحظة المتشجرة عميقاً، أراه يصافحني: أهلاً بك، أراك في أراضينا.
ابتسمت محيية: وهي أراضينا أستاذ أحمد غريب مدير قلعة حلب. وتابع: لنا جولة مع جمعية العاديات في القلعة ويسعدنا وجودك. وأضاف: القلعة لؤلؤة كونية استعادت بريقها رغماً عن الحرب الكونية الإرهابية، ورغماً عن كل من استعصت عليهم من محتلين وظلاميين، لتستقبل محبيها من داخل سورية وخارجها، مؤكدة على هويتها الوطنية والثقافية والانتمائية، ويزورها المواطنون بالآلاف لاسيما في الأعياد والمناسبات، ليطلعوا على مختلف العصور والعهود السابقة، بحياتها ويومياتها، وما ترويه لهم هذه القلعة التي لا مثيل لها في العالم، خصوصاً، وأن حلب من أقدم المدن المأهولة في العالم، أي من أقدم المدن الحضارية وتوءمها دمشق.
بعد ذلك، تبادلنا التحية مع الحاضرين لهذه الزيارة الرائعة، وكانت العائلات تتوافد بشوق واضح، بينما الماء ينظف المكان كل صباح، ويمنح الهواء رائحة أخرى لذكريات الغيم والفصول والتحولات.
الناس المزدحمة لزيارة القلعة منذ الصباح، تجعلنا لا ننسى دماء الشهداء التي أزهرت ورود السلام والأمان والطمأنينة التي نعيشها الآن، وهذا ما نلمحه في وجوه الجميع، المشاركين منهم في هذه الرحلة الثقافية السياحية، أو العابرين حول القلعة، في الشوارع والأزقة، أو المطلين من شرفات بيوتهم، أو الذاهبين لبرنامجهم الرياضي في الهواء الطلق وهم يعيدوننا إلى الفلاسفة المشائين.
ما زالت جمعية العاديات ومنذ تأسيسها عام 1924 في حلب كجمعية أهلية وطنية تعنى بالتراث العمراني والآثاري واللامادي، تواصل رسالتها الإنسانية الاجتماعية الثقافية التراثية، وتنتشر من خلال فروعها في مختلف المحافظات السورية، وتدافع عن الانتماء والهوية ميدانياً وبحوثاً وندوات وأمسيات ومطبوعات وقراءات في كتب، آخرها القراءة التي قدمها الباحث عبد الله حجار لكتاب “إضاءات حلبية”، وتستمر في حماية التراث السوري الحضاري المميز والمحافظة عليه وإبراز معالمه، وإصلاح المتضرر منه، وفي كافة المحافظات، إضافة إلى التعريف بتاريخنا العريق بمختلف الوسائل ومنها هذه الجولات الثقافية التراثية السياحية، ومن خلال معارض الكتب، والمناسبات، والاحتفالات الأخرى، مما يساهم في التشبيك التناغمي بين هذه الأهداف والسكان المحيطين بهذه الأماكن التراثية، ويساعد على مزيد من التطور الثقافي والاجتماعي والاقتصادي.
لم يكن لقائي مع مدير قلعة حلب والمشاركين من جمعية العاديات في هذه الجولة مصادفة أرضية فقط، بل أعتقد أن لروح القلعة وصهيل خيولها وحكايات سيف الدولة مع أبي فراس الحمداني والأصفهاني والمتنبي علاقة بجاذبية هذه الجولة في مدينة حلب القديمة وأسواقها بعد الترميم واستعادة الحياة لأحيائها ومساجدها ومحلاتها، كما أعتقد أن حجارة القلعة وذكرياتها تبادلنا الحنين العتيق، وتردد مع جنودنا وشعبنا بيتاً للمتنبي: “الخيل والليل والبيداء تعرفني/ والسيف والرمح والقرطاس والقلم”.