مجلة البعث الأسبوعية

تجارب عالمية تؤكد أن إعادة الإعمار مرتبط بإعادة هندسة البنيان المؤسساتي.. معايير الإصلاح تختلف حسب ظروف كل مؤسسة وخصائصها

البعث الأسبوعية – حسن النابلسي

يفترض في عملية إعادة الإعمار في إطارها النهائي تحقيق أمن المواطن ومصالحه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وهذا يتطلب وضع رؤية تترجم إلى أهداف وسياسات تنبثق عنها خطط تنفيذية على الواقع، ما يعني بالضرورة استثماراً للموارد البشرية والمادية المتاحة وإدارة فعالة وكفوءة على المستويات كافة، وهذا كله يصل بنا إلى أولوية أن يكون لدى الدولة بناء مؤسساتي قادر على مواجهة متطلبات هذه العملية.

هذا ما تؤكده تجارب إعادة الإعمار في الدول التي عانت من الحروب والكوارث، حيث أن الدول التي نجحت في إعادة هندسة بنيانها المؤسساتي على أسس جديدة تقوم على الشفافية ومكافحة الفساد وتعزيز حرية التعبير وتبني نهج اقتصادي يقوم على ركائز واضحة، هي التي استطاعت تحقيق نجاحات متميزة في إعادة الإعمار،أما الدول التي فشلت في إعادة بناء بنيانها المؤسساتي على النحو التي يرسخ العدالة والاستقرار فقد فشلت في إعادة الإعمار والبناء، تحصيلاً لشيء حاصل، وفي هذا المجال يعرض الدكتور حسين إبراهيم تجربتي اليابان وألمانيا في إعادة الإعمار بعد الحرب العالمية الثانية كمثال على النموذج الأول، وتجربة العراق كمثال للنموذج الثاني، ليعرج خلال بحث له حمل عنوان “أولوية الإصلاح المؤسساتي في إعادة البناء والإعمار” على تجربة الأمم المتحدة في مساعدة بعض الدول الإفريقية في إعادة الإعمار بعد سنوات من الحروب الداخلية المدمرة.

 تجربة اليابان

بعد استسلام اليابان عام 1945 وانتهاء الحرب العالمية الثانية، وبعد نشوء الحرب الباردة، حدث تحول في نهج الاحتلال الأمريكي لليابان، حيث تم إلغاء السياسات العقابية واعتماد سياسة الإصلاح وإعادة البناء، ومن أهم السياسات ذات الأولوية التي ركز عليها اليابانيون، كان إصلاح التعليم، ومما توافق عليه اليابانيون آنذاك هو”أن الأمة خسرت الحرب.. لكن المدارس لم تفقد استحواذها على الطلاب”.

هذه التطورات والتحولات العميقة في البنيان المؤسساتي هيأت الفرصة لليابان للاستفادة من تغير نهج الولايات المتحدة اتجاهها بسب التحديات التي فرضتها الحرب الباردة، لاسيما بعد اندلاع لحرب الكورية حيث سعت الولايات المتحدة إلى مساعدة اليابان لكي تصبح حليفاً قوياً في العالم الحر، مما مكّن اليابان من انتشال اقتصادها من براثن الكساد محققة نمواً في الناتج القومي بلغ في المتوسط حوالى 10% خلال الفترة ما بين الاستقلال في عام 1952 وحتى أزمة النفط في عام 1973، وهذا انعكس في تحقيق حالة من الازدهار والرخاء عمت اليابان خلال تلك الفترة بسب التدابير الصارمة التي اتبعتها الحكومة للارتقاء بأدائها ومكافحة الفساد وتكريس الشفافية.

تجربة ألمانيا

حطت الحرب العالمية الثانية أوزارها بعد أن أوصلت ألمانيا إلى دولة بلا مؤسسات  ولا مرافق ولا اتصالات ولا مواصلات ولا كهرباء ولا منافذ لبيع الغذاء والدواء، وبعد أن فقدت ألمانيا ربع منازلها وانخفض إنتاج الغذاء بمقدار النصف عما كان عليه قبل الحرب، لكن المفاجأة أن ألمانيا استطاعت بعد أقل من عقد من الزمن أن تكون صاحبة أكبر وأقوى اقتصاد في أوروبا ورابع أكبر اقتصاد على مستوى العالم، ليبقى السؤال هنا هل تحقق هذا بفعل مشروع مارشال التي تبنته الولايات  المتحدة لإعمار أوروبا؟.

الخبراء الذين قيموا تلك المرحلة من تاريخ ألمانيا يرون أن خطاة مارشال  رغم أهميتها لم تقدم لألمانيا الغربية سوى قدر محدود من المساعدة، فبحلول عام 1954 لم يكن إجمالي ما قدمته خطة مارشال وبرامج المساعدة الخارجية المصاحبة يتجاوز الـ2مليار دولار، مع  ملاحظة أن المساعدات الخارجية كانت تقدم بيد، في الوقت الذي كان يجرى استنزافها باليد الأخرى عبر ما يسمى بتعويضات خسائر الحرب التي فرض على ألمانيا تقديمها سنوياً لدول الحلفاء.

الواقع كما يرى العديد من الخبراء، أن نجاح ألمانيا في تحقيق معجزتها الاقتصادية يرجع إلى تبنيها نهج اقتصاد السوق الاجتماعي، الذي طرحه و يزر اقتصادها في عام 1948 LudwingErhard القائم على تبني قواعد السوق الحرة مع الحفاظ على حقوق المجتمع والعمال، فالدولة وفقاً لهذا النهج مسموح لها التدخل بالحدود التي تمكنها من تحفيز النشاط الاقتصادي ووضع سياسات تضمن بيئة تنافسية بعيدة عان الاحتكار ووضع سياسات اجتماعية لحماية الفرد والعمال. مما أسهم في تحفيز  المجتمع على إقامة شركات مساهمة  للإنتاج وإعادة الإعماار بالتعاون مع   المصارف، فظهرت شركات كبرى مثل مرسيدس وفولكس فاجن وشركات الحديد والصلب.. الخ، وقد تم ربط الشاركات الكبرى بشركات أصغر ومشروعا  صغيرة ومتناهية الصغر تقدم خادماتها ومنتجاتها للشركات الكبرى الأم، وهذا بدوره ساعد على ازدهار هذه، المشروعات وساعد في تحولها إلى شركات متوسطة تستوعب  الكثير من الأيدي العاملة، حيث أصبحت الشركات المتوسطة أكبر مولد لفرص العمل في البلاد.

في هذا السياق لا بد من الإشارة إلى أن النجاح الباهر الذي حققه نهج السوق الاجتماعي، والذي شكل منعطفاً كبيراً في تاريخ ألمانيا مما جعله يحتل مكانة متميز في تاريخ العلوم السياسية والأدبيات الاقتصادية، ما كان ليتحقق لولا الالتزام الجاد بنصوص القانون الأساسي الذي تم اعتماده في 1949 والذي وضع ركائز النظام  السياسي والقانوني للدولة والذي نص على أن  كرامة الإنسان مصانة وأن احترامها وحمايتها من واجب سلطة الدولة، وعلى فصل واضح للسلطات، وهذا يقودنا إلى نتيجة مفادها أن أولوية الإصلاح الاقتصادي في ألمانيا بعد الحرب، لم تكن على حساب مسارات الإصلاح المؤسساتي الذي تم العمل عليها بالتوازي دون أن يتقدم أحدها على الآخر، مما أسهم في عودة ألمانيا السريعة كإحدى أهم الدول على المسرح العالمي.

تجربة العراق

كان العراق في السبعينيات مصنفاً ضمن الدول ذات الدخل الفردي المتوسط الواقعة في الشريحة العليا والمرشحة للانتقال إلى الدول ذات الدخل المرتفع وكانت لديه فوائض  مالية ضخمة قدرت بأكثر من 35 مليار دولار، ولو تسنى للاقتصاد العراقي النمو خلال العقود التي تلت لكان بحسب تقديرات الخبراء الناتج المحلي الإجمالي يتجاوز في العام 2007 الـ400 مليار ومتوسط نصيب حوالي 15000 دولار سنوياً، ولكن الحروب التي عانى منها العراق منذ الحرب العراقية الإيرانية في نهاية السبعينات وانتهاءً بالغزو الأمريكي للعراق في عام 2003، ولأسباب  تتعلق بالحصار الذي فرض على العراق، هذا كله وضع العراق على سكة كارثية أخرى، فبحسب تقديرات بعض الخبراء تجاوزت الفرصة الضائعة للعراق بسب  الحروب والدمار حتى تاريخ عام 2007 الـ 1600 مليار دولار، ناهيكم عن الخسائر الأخرى في البنى التحتية والأملاك العامة والخاصة التي تجاوزت مئات   المليارات من الدولارات.

في محاولة لإعادة الانطلاق من جديد، تبنى العراق إبان الغزو الأمريكي في عام 2003 برنامجاً لإعادة الإعمار بتكلفة أولية قدرت بحوالي 19مليار دولار كمرحلة أولى، ولكن هذا البرنامج وغير، من خطط واستراتيجيات أقرت خلال السنوات  اللاحقة، والتي كان من ضمنها خطة التنمية الوطنية 2010 – 2014 لم تحقق المستهدف منها، والسبب يعود إلى البنية المؤسساتية الهشة التي عانى منها العراق، فعدم تمكن العراقيين من إعادة صياغة بنيانهم المؤسساتي، بما يسهم في تعزيز  الأمن والاستقرار واستقطاب الخبرات والاستثمارات الخارجية أدى إلى فشل جهود إعادة البناء والإعمار في العراق بصورة مؤلمة.

الواقع أن البحث في الأسباب التي حالت دون نجاح العراق في إعادة بنيانه المؤسساتي كثيرة ومتداخلة، ومما لا شك فيه أن موقع العراق الجيوسياسي الهام للغاية وثروات العراق كانت ومازالت تشكل نقمة عليه بدلاً من أن تكون نعمة تستثمر في إعادة بنائه وانطلاقه من جديد.

ما يهمنا من تجربة العراق هو أن عدم تمكن العراقيين من تجاوز المحنة والانطلاق نحو بناء دولة المؤسسات كان وما يزال يمثل التحدي الأبرز الذي يواجه العراق، فمصير العراق أرضاً وشعباً ودوراً مرهون في قدرته على إعادة بناء دولته على  أسس ترسخ العدالة والثقة المتبادلة بين مكوناته، وبما يرتقي بالأداء في مؤسساته ويحد من الفساد ويعزز الشفافية. ما يدلل على أنه ليس من خيار أمام الدول التي دمرتها الحروب لإعادة إعمارها لتأخذ دورها الطبيعي بين الأمم، ومن بينها العراق  بالطبع، سوى إعطاء عملية الإصلاح المؤسساتي الأولوية القصوى التي تستحق والسير على هذا الدرب الصعب  مهما بلغت الأهوال والتضحيات.

تجربة الأمم المتحدة

في تقريرها عن إعادة إعمار بعض الدول الإفريقية ما بعد الحرب الداخلية المعد من قبل عدد من خبرائها الاحترافيين، بينت الأمم المتحدة أن تحديات إعادة إعمار الدول التي عانت من حروب داخلية، هي أعقد وأصعب بكثيرمن عملية وضع حد للقتال والحرب، مؤكدة خطورة أن تستورد الحلول من الخارج ومن أهم ما لفت إليه التقرير وقدمه من آراء تتعلق بإعادة البناء المؤسساتي للدول التي دمرتها الحروب الداخلية كضرورة للنجاح في عملية إعادة الإعمار، أن القطاع الخاص من تجار ورجال أعمال محليين وفاعلين عائدين من الشتات الخ…، هؤلاء قد لا يشاركون جميعا بفعاليات إعادة الإعمار على النحو الصحيح، إذ أن بعضهم -إن لم يكن أغلبهم- يدعمون استمرار الصراع، والحرب، والبعض الآخر يدعم السلم والإعمار والصراع والحرب في آن معاً، هم غالباً الوحيدون الذين يربحون الحرب وربما يعملون على تأسيس بنية سلطة موازية لسلطة الدولة، وبالشكل الذي لا يمكن التحكم به.

كما لفت التقرير إلى أن الجماعات المسلحة وبعض جماعات المجتمع المدني يعملون على التقليل من دور الدولة ويحاولون إظهار الصورة السلبية للدولة (الفساد، عدم الكفاءة، البيروقراطية، سلطة تكرس دوما الامتيازات..)، وهذا يساعد دوماً على تقويض دور الدولة، ويفاقم من عدم الثقة بمؤسسا الدولة. إضافة إلى أن القوى الخارجية غالباً ما تلعب دوراً في تفشي الصراع، بالرغم من ذلك لا يمكن القول بأن دور هذه القوى رئيسي لأن جذور الصراع هي داخلية، لكنها تلعب عادة دوراً مهماً في النهاية الرسمية للصراع، وتدخلها غالباً ما يؤثر على الهيكلية السياسية للمجتمع وعلى الاستقرار والشرعية لفترة ما بعد الحرب، فالسلام الذي يستمر ويدوم ويضمن الأمان والاستقرار السياسي والاقتصادي والعسكري ويخفف من التوترات والصراعات، هو السلام الذي يبنى فقط من الداخل بواسطة الفاعل المحلي والداخلي.

وأكد التقرير أن الدولة والدولة نفسها وفقط يجب أن تتولى مسؤولية إعادة الإعمار، فبدون الدولة لا يمكن لهذه العملية أن تحقق النجاح، فعلى الدولة أن تقوم بدورها كاملاً لجهة تحديد الأولويات ووضع إستراتيجية إعادة الإعمار بحيث تقوم على التشاركية بين قطاعات المجتمع وقواه الفاعلة، مشدداً على أن إعادة الثقة بالناس بعضهم ببعض من جهة، وبين الناس والحكومة من جهة أخرى، يجب أن يكون من السياسات الأبرز، التي يجب تبنيها ضمن إطار استراتيجية إعادة البناء، كما أنه في أحيان كثيرة يكون من الضروري وضع سياسات الاستقرار الاقتصادي جانباً وإعطاء الأولوية للاستقرار السياسي، لأن ذلك يسهم في إعادة الاستقرار في الجوانب  الأخرى، لاسيما الاقتصادي منه، بفعل الثقة المتشكلة بين الفاعلين الاقتصاديين.

آلام وذكريات

إن إصلاح العلاقات –حسب إبراهيم- يتطلب بالضرورة تصحيح العلاقات الغامضة وغير العادلة، ما يتطلب بذل الأطراف الفاعلة الجهود لإحداث تشاركية حقيقية في السلطة، وفي هذا الإطار مطلوب من القوى الخارجية أن تلعب دور الوسيط العادل في هذه العملية، إذا أرادت فعلاً أن تعزز  السلم وتسهم فيه، كما أن إصلاح العلاقات بين الناس، يتطلب أكثر من العمل معاً في عملية إعادة البناء، إذ أنه يحتاج إلى الشفاء من الذكريات القاسية “الخوف والرعب من الحرب”، فالعدالة لا تكفي وحدها بل لابد من الاعتراف بحقيقة الأحداث الكبرى التي حصلت.

واستخلص إبراهيم من تقرير الأمم المتحدة أنه لا بد للدولة التي عانت من حروب داخلية من أن تعمل بكل طاقاتها لتجديد بنيانها المؤسساتي، لتتمكن من الاضطلاع بالمهام الجسيمة لإعادة الإعمار، لأن ذلك يعد شرطاً أساسياً لكي تكون قادرة على توحيد وتسخير جهود مختلف القوى الداخلية وإعادة الثقة بالمواطن والحكومة وبالناس أنفسهم، وتعبئة واستثمار الموارد المتاحة بصورة فعالة وكفوءة، كما أن ذلك يعد إحدى أهم الرسائل لتشجيع الخارج على المساعدة في تقديم الدعم والإسهام في إنجاح هذه، العملية.

وبالنتيجة ما تقدم يظهر بما لا يدع مجالاً للشك أن الإصلاح المؤسساتي يبقى الركن الأهم في عملية إعادة الإعمار للدول التي عانت من الحروب والدمار، مهما اختلفت ظروف هذه الدول، وهو الطريق الوحيد الذي لا بد من سلوكه لبناء الدولة القوية العادلة. ما يعني أن عدم إعطاء عملية الإصلاح المؤسساتي الأولوية  كإحدى أهم مسارات عملية إعادة الإعمار في بلدان ما بعد الحروب يعد قفزاً في المجهول ومجازفة قد يكون لها تداعياتها السلبية الكبيرة على عملية الاستقرار والتنمية وعلى مستقبل تلك الدول برمته.

أخيرا

بين إبراهيم أن أسس ومعايير وأولويات الإصلاح المؤسساتي، تختلف بحسب  ظروف  وخصائص  كل مجتمع، وبحسب التراكم المعرفي والمرجعية العلمية التي يستند إليها الخبراء والباحثون، وعلى وجه العموم يتفق الخبراء في هذا المجال، أن للإصلاح المؤسساتي ثلاثة مسارات رئيسة تتكامل مع بعضها البعض “مسار التنمية الإدارية، مسار الحكم الرشيد أو ما يعرف بالحكمانية أو الحوكمة، مسار التنمية السياسية”, فالنجاح في الارتقاء المؤسساتي يتطلب العمل عليها مجتمعة.