صباح فخري مجرّة التراث الإنساني وأوركسترا المدار الزماني
“البعث الأسبوعية” – المحررة الثقافية
كيف للمتأمل عميقاً أن يبصر ما وراء مدار الصوت وحواسه وحدوسه، ليكتشف النص المسكوت عنه في تراث صباح فخري المتجذر في التراث العربي الشرقي الإنساني؟ وأية فلسفة موسيقية نسجها مع الأبعاد العلمية والنفسية واللغوية والصوفية لتزداد روحه توهّجاً مع روح المستمعين على مرّ الأزمنة وفي كل الأمكنة؟
صباح فخري موسوعة تاريخية موسيقية لا تقل أهمية عن “لسان العرب” أو “الموسوعة البريطانية”، ولم تنجب الأزمنة والأمكنة على مر العصور مثله إلاّ ثلة من العباقرة أمثال زرياب، أبو فرج الأصفهاني، فيثاغوس، ولهذا فإن الطاقة التي حباهُ بها الله استطاعت أن تلمع بفطرتها منذ الطفولة، لينتبه إلى جذور شجوها وأغصان ضوئها واحتمالاتها المستقبلية.
ولأسباب مختلفة وهامة ومتميزة، أضاف للثقافة الموسيقية العربية والعالمية مجرّة فنية بأبعاد ثلاثية ورباعية وخماسية وسداسية وسباعية، انطلق من المحلية الحلبية السورية إلى العالمية، وانتشر صوته مثل الفينيق، ليكون الصباح المضيء بالصباحات والمساءات، وليكون سفير المحبة والأغنية والتراث الفلكلوري وذاكرة مستقبلية، ومنارة من منارات الهوية السورية والعربية والإنسانية.
فلسفة موسيقية
تمتع صباح فخري بروح متفتّحة على الاستغوار العابر للأزمنة، ومتفتّحة بأصالة حديثة، لعبتْ على الوتر العالي للموسيقا، وجعلت من الفنان والأغنية والمستمع حالة تشاركية أشبهَ بمفتاح “الصول”، ثم توزعت جملاً موسيقية، ومشاهد دلالية، وإيقاعات شعرية، ومدار متسع لاستقطاب هذه المعادلات، وصهْرها في فضاء هارموني لا يبتعد عن “فقه الإيقاع”، وتآويل المعنى بحالتيه المجسدة والمجردة، وكأن صباح فخري يخبرنا بسريةٍ ما، عن سرّه المتقارب مع “وحدة الكون/ ابن عربي” بعناصره المختلفة والمتآلفة والمتضادة، ويترك لتجربته كوحدة نصية كبرى أن تفصح عن هذا المكنون بتدرجاتٍ عميقة، ومؤشرات شفيفة، تومض وتختفي، تبرق وترعد، وتتأبط سكوناً ملوناً مثل قوس قزح وهي تمسك بورود الصمت لتعطّر الصوت بين روحه وقلوب الناس وأرواحهم، وتنثرها بين ذبذبات الفضاء بجاذبية تشبه مولوية جلال الدين الرومي وهي تدور حول المركز بعكس عقارب الساعة، ثم ترتكز على نقطة الدوران الكامنة في اللاوعي، لتنطق بهيئة موسيقية جديدة، لتتفتّح مثل زهرة “اللوتس”، فوق بحيرات المخيلة المتحركة في الأبعاد، تماماً، كحركات “اليوغا” لكنها، هنا، “يوغا موسيقية”، متشابكة مع “بصيرة الاستماع” التي تبدأ من حاسة السمع لتشبك الحواس الأخرى معها، ثم تبتعد محلقة في الأعماق النفسية، صاعدة في خط بياني له مداره الخاص لدى كل مستمع منّا، لتهطل بحيويتها مع المتفاعلات المتبادلة للعوامل والعناصر الفنية، ومن هذه الحركة الحيوية للهالات وأطيافها، تنبع أهمية التوازن الهارموني لتجربة صباح فخري الموسيقية، خصوصاً، وأنه يوظف محور المستمعين كعنصر تشاركي متفاعل مع العناصر الثلاثية الأساسية للعمل الموسيقي المكونة من الكلمة، اللحن، الصوت.
وإذا ما عدنا إلى تلك الحركة المولوية في دورانها الصوتي الموازن بين لغة الأرواح والحواس، نلاحظ كيف يوازن المبدع صباح فخري دلالاته الموسيقية من خلال حركته الجسدية التعبيرية على المسرح، وكيف يوصل المعنى الصادق من خلال ملامحه، وحركة يديه، فيغوص في الحالة ودورانها في المخيلة والواقع ضمن مشهد خرافي لا تجيده إلاّ القلة من المبدعين الموسيقيين والشعراء والفنانين.
رقصة السنبلة مولوية فخري
وضمن هذه التحولات الإبداعية، نلاحظ كيف ابتكر “رقصة السنبلة” الخاصة به، تلك الرقصة التي يعرف أسرارها العارفون المدركون متى يشطح بها صباح فخري وكيف ولماذا؟
رقصة السنبلة من اسمها كعنوان قابل للتأويلات المختلفة، تأخذنا إلى عالم من التدرجات التفاعلية التي تصل إلى ذروة حالة الكشْف والتوغل في ألوان المحجوب، وتبدأ بحركة جسدية متمايلة تشكيلياً، بحركات الرقص الجسدي لفخري، سنبلة تنبت وتتمايل مع رياح اللحن وفصول الكلمة ونبضات الروح.
وبالمقابل، وما إن تبدأ رقصته السنبلة بالحضور على المسرح، حتى نجد كيف يصبح المتلقون المستمعون من الحاضرين في المكان وجودياً، ومن المتابعين لغنائه بمختلف الوسائل والوسائط، نجدهم مرايا لتلك الموسيقا، فيتمايلون دون شعور واعٍ، ويصعدون برقيّ مثقف إلى قمة الحالة البرزخية، غير مدركين، تماماً، لماذا هم يتأرجحون بين الوجود واللاوجود؟
صوته فنون اللغة العربية
تأسس صباح فخري منذ طفولته على الابتعاد عن (اللحْن اللغوي) أي الخطأ، وتقول العرب: “من حسنت لغته حسنت أخلاقه”، وضمن هذه البيئة المحلية الحلبية العربية الأصيلة نشأ وترعرع وتأثر وأثّر، ودرس الموسيقا علمياً، وذهب في أعماق الحضارة العربية السورية الشرقية شعراً وموسيقا، فكتب بصوته جماليات شعرية وسردية وحكائية ولونية وتشكيلات متنوعة بين الطبيعية والخيالية والواقعية والوجدانية، مما جعل عالمه الموسيقي أسطورة متكاملة ناغمها من خلال صوته ومساحته المتسعة، وهذا من نعم الله عليه الذي وهبه صوتاً هو بحد ذاته فرقة وجوقة وأوركسترا كاملة.
إضافة إلى ذلك، اعتمد في أغلب تجربته على هويته التي تمثلها اللغة العربية وشعرائها اللامعين لؤلؤاً منثوراً على مختلف العصور، ليثبت هوية متأصلة، ويكشف عن جماليات اللغة العربية العابرة للأمكنة والأزمنة، ولذلك، تميز باختياراته المتنوعة، المؤسسة لذائقة عربية شمولية، تبدأ من أعماق التأريخ الشعري، عبوراً بعصور متنوعة، وصولاً إلى الشعر الحديث.
بصمات وطنية
ولا تخفى بصماته الوطنية من خلال انتمائه العربي السوري، وتنقلاته للغناء في أرجاء الوطن العربي من المحيط إلى الخليج، وبكل يقين، لا أحد ينسى كيف غنّى “حيّ على الجهاد” في حرب تشرين التحريرية، وكيف كان مهتماً بإيصال رسالته الفنية، وانتمائه المتجذر، وهويته العربية السورية، وهو الذي رأى ببصيرته جزءاً من القادم، لذلك، كان دائماً يوصي بالحفاظ على التراث والهوية لأن منطقتنا العربية تتعرض لحروب أهم أهدافها الجذور والانتماء والهوية.
يؤذن وهو في التابوت
وأخيراً، استمعت حلب، وستظل تستمع، لآذان العصر بصوت صباح فخري تكريماً لمسيرته الفنية والإنسانية والوطنية، كما استمع هو ذاته لمآذن حلب وهي ترفع الآذان بصوته ذاك اليوم بينما يمر موكب تشييعه المهيب في شوارعها التي اشتاقت إليه ليعبر إلى مثواه الأخير في المقبرة الحديثة، تاركاً لأغانيه أن تملأ الفضاء فترددها العصافير والأشجار والناس، والمسارح المختلفة التي غنّى فيها، بدءاً من مسرح قلعة حلب ومسارح هذه المدينة العريقة ذات الحضارة العتيقة المأهولة منذ آلاف السنين، مروراً بمسارح العالم ودُور الأوبرا المحلية والعربية والعالمية.